كلنا يعلم أنّ الإنسان جسد وروح، وأن الروح فيه هي الأصل والجوهر بينما الجسد طارئ ومظهر، وأن الروح ثابتة لا تتغير بينما الجسد يتغير من سنة إلى ستين سنة فأكثر إن قدّر الله له ذلك. إن كان الجسد مؤقتا ومرتبطا بالحياة الدنيا فإن الروح خالدة، كانت قبل الحياة الدنيا في عالم الذرّ، وكائنة أثناءها في عالم الشهادة، وستكون بعدها في عالم البرزخ حتى تنتهي رحلتها إلى عالم الآخرة. الروح مصدرها سماوي نفخة إلهية، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فهي نور، أما الجسد فمصدره أرضي قبضة طينية من تراب فهو ظلمة. ولهذا كان على الإنسان في صورة شخصيته الحقيقية أن يشبه أصله وجوهره الذي هو النور، فيظهر ذلك النور على وجهه، وفي كلامه، وفي سلوكه وأفعاله. نتخيل بين أيدينا تفاحة، ثم قطعنا منها شطيرة، وبعد أن أخفينا التفاحة قلنا لأحد الحاضرين: لمن يشبه هذا الجزء؟ بكل تأكيد سيجيب: إنه يشبه التفاحة لأنه مقطوع منها. كذلك الإنسان كائن روحي فعليه أن تغلب عليه الروحانية وليس المادية، النورانية وليس الظلمانية. ولما أهمل الإنسان أصله الروحي واهتم بجسده الطارئ والمؤقت كان من الطبيعي جدا أن يشبه جسده الترابي في قساوته وصلابته وظلمته لينسحب ذلك كله على كلامه وسلوكه وجميع أعماله. هذا من جهةِ أن الروح هو الذي يضفي النورانية على الإنسان حين يهتم به ويربطه بمصادره النورانية التي سنذكرها لا حقا، ومن جهة أخرى فإن الروح هي التي تعطي للجسد الحركة وإلا لبقي جثة هامدة، وكذلك يكون حين تخرج منه يعود جثة هامدة. نتخيل مثالا لهذه الفكرة، عندما تأخذ كُرة غير منفوخة فتضعها على الأرض فهي لا تبدي أي حركة بنفسها، حتى إذا نفخت فيها من الهواء كما ينفخ الملَك الروح في الجسد وهو في بطن أمه، خفّت الكرة المنفوخة وتحركت لمجرد دفع بيد أو ريح قليل. وعندما يخرج منها الهواء كما يخرج الروح من الجسد عند موته عادت النفّاخة جسما رخوا لا يتحرك كما كان. فالحكم في حركة النفّاخة للهواء وليس لجسمها البلاستيكي، وكذلك الحكم في حركة حياة الإنسان للروح وليس للجسد بعظمه ولحمه. فالأولى أن نهتم بمنبع الحركة الحياتية الذي هو الروح وليس الجسد. وبطريقة تلقائية عندما تهتم بالروح تفرض عليك أن تهتم بالجسد لأنه يحتويها، ولا بدّ للوعاء الذي يحتوي الجوهرة المضيئة ويحميها من المؤثرات الداخلية والخارجية أن يكون في مستوى اللائق بالجوهرة، من حيث اختيار الغذاء ونوعه، وممارسة الرياضة واتخاذ أجمل اللباس وأنظفه . وفي معركتنا مع فتنة الشيطان المخلوق من النار، غالبا ما ينتصر على من غلبت عليه الترابية نتيجة اهتمامه بالجسد، لأن النار تحرق التراب، بينما لا يستطيع الشيطان بنيرانه الفتنوية أن ينتصر على من غلبت عليه النورانية، بل ينهزم أمامه شرّ هزيمة، لأن النور يُحرِقُ النار. وهو الذي أورد الله تعالى قوله في القرآن، قال: فبعزّتك لأغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المُخْلَصين ، فقد استثنى المخلصين لعدم قدرته على نورانيتهم العالية. ولمّا أُلقي سيدنا إبراهيم عليه السلام في النار لم تحرقه، لماذا؟ لأن شخصيته غلبت عليها النورانية. وما كانت دعوة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام إلا لإخراج الناس من ظلمات الفتنة التي تغشى أجسادهم وقلوبهم إلى نورانية قلوبهم وأرواحهم وعقولهم التي بها تستنير أجسادهم. ولو لم يكونوا هم أشخاصا نورانيين أولا لما استطاعوا تنوير غيرهم بإخراجهم من الظلمات إلى النور. وعلى هذا فمن أراد أن يُحدث التحول والتغيير في حياته ليرتقي في مدارج الدين من إسلام لإيمان لإحسان، فعليه أن يحدثه على مستوى الروح الذي يمثل حقيقته الذاتية، وليس على مستوى الجسد، كما هو شائع في دنيا الناس، والذي أغلب الإشهارات التلفزيونية تُبَث من أجل ترسيخه. وعندما نقول الروح فإننا نعني به القلب بشكل عام. ولأن القيام بهذا التحول والتغيير على مستوى الروح (القلب) يجعل الإنسان وجها لوجه أمام نفسه الأمارة بالسوء، وما يترتب على ذلك الصراع من متاعب ومصاعب من أجل التغلب عليها، يكتفي الإنسان بإحداث التحول أو التغيير على مستوى الواجهة أي الجسد ليخفي الظلمة لعلّ ومضة من النورانية تبدو عليه، وأنى له ذلك وقد فقد الاتصال بمصدر النور. والتحول على مستوى الروح هي ولادتها من جديد من رحم النفس ومشيمتها، هي تحريرها من القفص، فهي تحب الحرية، تحب التمدد والتوسع والانبساط، نشيدها الدائم: "من فضلك لا تضعني في قفص"، فلا يعقل أن يأبى الإنسان السجن لجسده، بينما يحب حبْس الروح في داخله كطائر في قفص. التحول على مستوى الروح هو بتعبير آخر دخول من باب ظاهره الظلمة وباطنه النورانية، باب يستحيل الرجوع منه، لأن هناك أبوابا أخرى تنتظر الدخول منها إلى رحاب هي أكثر نورانية. "وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يُقذف في النار" . ومن العقبات التي تحول دون الإقبال على عملية التحول الذي يحرّر الروح ويحقق لها السمو في مقامات الإحسان، نجد: - الثقافة المرسّخة عند الكثير من الناس من أن الاهتمام بالأمور القلبية والروحية من مقامات الإحسان ومنازله هي من نصيب الدعاة والعلماء والأولياء على وجه الخصوص. - الاعتقاد لدى البعض الآخر من الناس أن مثل هذا التحول على مستوى الروح قد يكون متعارضا مع تعاليم الدين. فقد علموه في المدرسة أن الإسلام بني على خمس، ولم يعلموه أكثر من ذلك. - عدم استطاعة بعضهم أن يضحي بالراحة والأمان اللذين يجدهما مع اهتمامه بكيانه الجسدي، فهو غير مستعد لأي تجربة شخصية أو مغامرة، وبهذا لا قدرة له على تجاوز الحياة المادية التي صنعها لنفسه، حتى يرتقي إلى حياة روحية لم يعتدها. تظهر لنا هذه الحقيقة جلية وناصعة يوم القيامة، يومئذ نتأكد من أصلنا ونعرف جوهرنا من شكلنا. يقول الله تعالى: يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، بشراكم اليوم جناتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، ذلك هو الفوز العظيم ، ويقول كذلك سبحانه: يوم لا يخزي الله النبيء والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير . فيوم القيامة يكون المؤمنون والمؤمنات في النور يحيط بهم من كل جانب يضيء لهم الطريق، بينما المنافقون يكونون في ظلام لا يرون الطريق ولا ما حولهم، مما يدفعهم إلى أن يطلبوا النور من المؤمنين. يقول الله تعالى يحكي عنهم: يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم، قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا . فظهور النورانية يوم القيامة مرتبط بالتماسها في الدنيا، وذلك من خلال الاتصال بمصادرها والاقتباس من منابعها. أما الافتتان بالدنيا والتربص بالمؤمنين والارتياب والتسويف في العمل والاغترار بالأماني كل ذلك يبعد عن مصادر النور ومنابعه ويقرّب من مصادر الظلمة ومنافذها. وإذا حاولنا أن نستقصي تلك المصادر التي التمس واقتبس منها المؤمنون والمؤمنات النور الذي استناروا به في الدنيا وكانوا يمشون به في الناس فيحصل لهم التأثير والجاذبية عليهم، نجد منها: 1 - الاتصال بالله تعالى: وهو أصل كل مصدر النور ومنبعه، فهو سبحانه وتعالى نور السموات والأرض، ومن أسمائه الحسنى النور، و"أقرب ما يكون العبد من ربه (أي من النور) وهو ساجد، فأكثروا الدعاء". وفي حديث آخر: "أقرب ما يكون الرب من عبده في جوف الليل الآخر".. وأفضل ما يجالس به العبدُ ربّه ليكون معه الإكثار من ذكره، "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني". 2 - الاتصال برسول الله صلى الله عليه وسلم: وهو نور من نور الله تعالى، يقول الله تعالى: قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ، فالكتاب هو القرآن، والنور هو محمد صلى الله عليه وسلم. ويقول كذلك سبحانه: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، السراج: مصدر للضوء والنور. وأقرب ما يكون العبد من رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يصلي عليه، فإن صلاته نور يضيء القلوب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد يسلم علي إلا ردّ الله علي روحي حتى أردّ عليه" . وكلما أكثر المؤمن الصلاة عليه اقترب منه أكثر فتنوّر أكثر. 3- الاتصال بالقرآن الكريم: فهو نور لأنه كلام الله الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى: فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا، والله بما تعملون خبير . والتماس النور من القرآن إنما يكون بحمل المؤمن للمصحف بين يديه والنظر فيه، وبتلاوته وتدبر آياته، وبحفظه وتحفيظه للناس، وبتعلمه وتعليمه للناس. 4- الاتصال بالدعاء، وذلك أن يطلب المؤمن الله تعالى أن يعطيه ذلك النور، فيقول: "اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن خلفي نوراً، واجعل لي في نفسي نوراً، وأعظم لي نوراً". 5- المشي إلى المساجد في الظلم، فقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التامّ يوم القيامة" . وهناك مصادر أخرى للنور ذكرت في آيات وأحاديث أخرى تفتل في نفس المعنى، منها الوضوء: وهو من الوضاءة أي الضوء والنور، ويوم القيامة يأتي المتوضئون غرا محجلين من أثر الوضوء. ومنها الصلاة، وخاصة قيام الليل، وصلاة التطوع في البيت. ومنها الإخلاص لله: "من أخلص لله أربعين صباحا نوّر الله قلبه وأجرى الله الحكمة على لسانه" . وقد روي هذا الحديث بطرق عدّة وقيل فيه ضعف. ومنها الصبر: "والصبر ضياء" . وخلاصة القول أن اتصالنا بهذه المصادر والتماسنا منها النور يجعل قلوبنا تمتلئ روحانية وتشعّ نورانية، وهذا ستنسحب على أقوالنا وأفعالنا وكل ما يصدر منا. وبهذا النور تحدث لنا عملية التحول في حياتنا لنرتقي في السلم الإيماني والإحساني، وبهذا النور نمشي في الناس وبه نتواصل معهم وبه نخالطهم فنحدث فيهم التأثير والجاذبية المطلوبين تربويا ودعويا وحركيا.