يبدو أن بعض المدن تغريك بتاريخها فتسمع رنينه الخافت في كل زقاق ومبنى قديم.. لعل هذا التوصيف ينطبق تماما على مدينة أصيلة، تلك الحاضرة الصغيرة التي تطل على المحيط الأطلسي، لكنها تستمد من الأطلسي تاريخا عريقا تشهد عليه معالم المدينة. فبقصصها وحكاياتها تروي عراقتها ومشاهد من الماضي لازالت تفاصيلها بين زوايا مآثرها. فمدينة أصيلة، التي تبعد حوالي 40 كيلومترا عن عروس الشمال طنجة، تعد من أعرق حواضر المغرب التي اضطلعت بأدوار تاريخية كبرى، إذ غطت بإشعاعها مجالات جغرافية واسعة داخل فضاء الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط. كما أن الزائر للمدينة “البيضاء”، ينتبه للوهلة الأولى، لطابعها المعماري الإسلامي والمتوسطي الذي تطغى عليه الدور البيضاء المتراصة والنوافذ الزرقاء. ولا غرابة أن يتردد اسم أصيلة، التي كانت تدعى “زيليس” إبان العهد الروماني، على ألسنة الق صاص، وي ثب ت في سجلات الأحداث منذ أقدم عصور التاريخ، مثلما يتردد ذكر طنجة وتطوان ومدن أخرى كانت متسيدة للمشهد التاريخي بالجهة الشمالية للمملكة. وتضم المدينة حاليا، العديد من المآثر التاريخية ذات الأصول الرومانية والإسلامية واليهودية والبرتغالية والإسبانية، من أشهرها الجامع الأعظم وجامع السعيدة وبرج القمرة وقصر الريسوني والأسوار والأبراج البرتغالية والثكنة الإسبانية والكنيسة الكاثوليكية. وأنجبت مدينة أصيلة، خلال مرحلة العصور الوسطى، الكثير من العلماء والمفكرين الذين اخترقت شهرتهم الآفاق، وعلى رأسهم العلامة الإمام الأصيلي الذي كان من أشهر رواة “صحيح البخاري” بكل منطقة الغرب الإسلامي. وبرز اسم المدينة لأول مرة عند نهاية مرحلة حكم الأدارسة، حيث كانت عاصمة للمنطقة التي آل أمرها للأمير القاسم بن إدريس الثاني، قبل أن تنتقل السلطة فيها إلى ملوك قرطبة الذين أعادوا بناءها وتجهيزها. وقد أشار العديد من المؤرخين، مثل ابن حوقل والبكري والحسن الوزان، إلى غنى تاريخ المدينة خلال هذه المرحلة وإلى أهمية أسوارها ورواج أسواقها وأمن مينائها. وابتداءا من القرن 14 ميلادي، كانت سفن الجنويين والكطلانيين والميورقيين تفد على ميناء أصيلة، وأقام تجارهم فنادق لهم بالمدينة، وأصبحوا يعتمدون عليها للحصول على العديد من السلع الهامة مثل التبر والحبوب والصوف، مقابل ترويج سلع مختلفة أهمها التوابل والعقاقير الشرقية. وإلى جانب التجارة، فقد امتهنت ساكنة المدينة نشاط الجهاد البحري، مما أكسبها مناعة وصيتا عالميين تردد صداهما في مصنفات التاريخ الإسلامي والأوروبي. وفي سنة 1471 م، تعرضت المدينة للاحتلال البرتغالي، وفي سنة 1578 م كانت قاعدة للحملة العسكرية التي قادها الملك البرتغالي ضون سبستيان على المغرب، والتي انتهت بالمواجهة الشهيرة في معركة وادي المخازن. وتراجعت أهميتها السياسية والاقتصادية منذ القرن 17 الميلادي، لتعيش تحت تقاطب وتأثير مدن شمال المغرب المجاورة. وظلت على هذا الحال إلى أن وقعت تحت الاحتلال الإسباني عند بداية القرن 20، شأنها في ذلك شأن باقي مناطق شمال المغرب. ويتذكر سكان مدينة أصيلة بكل اعتزاز زيارة جلالة المغفور له محمد الخامس للمدينة واجتماعه بخليفته مولاي الحسن بن المهدي وبرعاياه من سكانها يوم 9 أبريل 1947، وهو في الطريق إلى طنجة لزيارتها زيارة نقلت الصراع في المغرب بين القوى الوطنية والحكم الاستعماري إلى الصعيد الدولي. وفي هذا السياق، أكد الباحث في التاريخ المعاصر، الأستاذ أسامة الزكاري، أن مدينة أصيلة تعتبر من أقدم المدن المغربية، التي لعبت أدوارا تاريخية، وكانت متأثرة ومؤثرة في كل التفاعلات التجارية والسياسية والاجتماعية والعلمية والثقافية التي عاشتها منطقة الشمال الغربي للمغرب عبر تاريخها القديم والوسيط ثم الحديث. وأبرز الأستاذ الزكاري، في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن “المتبحر في تاريخ المدينة يصطدم دائما بندرة المراجع التي تؤرخ لفترة من فترات المدينة، وفي بعض الحقب التاريخية نلاحظ فراغا تاما بحيث لم يذكر اسم المدينة بتاتا لا في المراجع المغربية أو الأجنبية”. وأشار الباحث المحلي إلى أن مدينة أصيلة “هي الوحيدة من مدن الشمال التي تعرضت للتدمير والهدم عدة مرات من طرف الغزاة المستعمرين، وذلك بسبب خضوعها للاحتلال لمدة طويلة”. وهكذا، يبدو جليا أن مدينة أصيلة تزخر بتاريخ حافل بالأحداث ومليء بالوقائع، مما يدل على أهميتها، لكن هذا التاريخ في حاجة إلى باحثين ينيرون زواياه ويكتشفون خباياه، لاسيما فيما يتعلق بتجميع الوثائق المتعلقة بسنوات الحكم البرتغالي والإسباني للمدينة وتسليط الضوء على أحوال المدينة السياسية والاقتصادية خلال تلك الفترة.