"حك جلد روسي وستجد تتريا ، وحك جلد اسباني وستجد مسلما" جرترود شتاين عزيز قنجاع رواية عيون المنفى للروائي حميد البجوقي تستحق بان توصف بانها رواية بمدى وشساعة أفق، لانها اكتنهت سيلا غزيرا من القضايا التي تناقشها من خلال توسلها إشكال الهوية مدخلا لنبوغ الإحساس بعظمة الإنسان، وبدنيوية العالم وحميمية الانخراط الشبقي فيه، وايمانها بضرورة التواصل والتفاعل والاثراء المتبادل بين الثقافات والمجتمعات. فحينما تقوم اية رواية على سرد حكائي ضمن تعدد مجالي، يصبح الفضاء الروائي اشكاليا، بل شيقا. هذا هو شان رواية عيون المنفى للروائي عبد الحميد البجوقي التي يمكن اعتبارها بحق رواية المفارقات، فهي تقوم فلسفيا على الصراع الذي يتبدى قويا بين الرغبة في امتلاك الفضاء والتحكم به، ورد الفعل المقاوم، هذه المتقابلة تؤطر كل العمل الروائي حيث تلتقي انساق البنية السردية للرواية بأخرى اكتهانية لفضاء ينبغي ان يعاش و يتمتع به بشكل ناشط قبل حتى ان يتمكن من تقبل حدوده او نظامه، وسردية انتبادية تعيد التذكير بالفواصل و الحدود و الموانع الهوياتية و الثقافية. لكن كذلك يجب التذكير ان رواية عبد الحميد البجوقي رغم كونها من الجنس الروائي السير ذاتي،، الا انها تدخل في علاقة ملتبسة مع الزمان سواء على مستوى المادة التاريخية المستعادة ضمن اطر السرد الداخلي في سياق التذكر، او على مستوى احداث السيرة، حيث يحضر البطل في هذه الرواية إنسانا متوهجا مشعا من داخل ذاته وعبر اعضائه كلها، نفسا هادرة تندفع في طريقها بشهوة لامتلاك العالم كله ووصفه و تحديده ورسمه وتملكه تملكا لا فكاك له منه، وهذا ما يجعل احداث الرواية – رغم اعتماد الكاتب طريقة الفصل بين مواضيع فصول الرواية- متداخلة متواشجة حميمية غير خاضعة لصرامة المرجعية التاريخية وسلطة الذاكرة، وتتجاوز حقيقتها الفعلية ظلال العالم الفعلي الذي تحدث فيه الرواية. تقوم رواية عيون المنفى على مصادرة التاريخ عبر إعادة تبيئته في وطن الرواية من خلال استعادة اسماء فارقة في محنة المورو، فتحضر ايصابيل وهو اسم بإحالات جد جارحة في محنة الموريسكيين، لكنها هنا امراة برهبة بالغة في الحب والانوثة، مطمئنة لذاتها واثقة بقدرها متيمة بحب سعيد المورو . وكذلك تلك الاحالة الشيقة لوجود سعيد في الرواية مانعا وحدا فارقا بين اي احتمال لاعادة ربط صلة بين ايصابيلا وفرناندو الصديق المشترك لايصابيلا و سعيد، والذي يحيل التقاؤهما تاريخيا الى زواج كارثي في تاريخ البشرية وتاريخ الموريسكيين على وجه الخصوص، ورغم استعادة سعيد المورو لايصابيلا في الرواية ضمن استخطاطية روائية جديدة تعاند التاريخ الحاصل ، الا ان المشكل الاكبر بقي صامدا حيث تعود سلطة الثقافة كعامل لتتفوق من جديد على التاريخ وزمانيته، غلاف رواية "عيون المنفى" ورغم كل المحفزات المساعدة لجعل ايصايبل امراة بتاريخ مختلف، حيث يحضر سعيد الاخر المورو هو الحبيب وأم ايصابيلا امراة متعاطفة مع سعيد لاشتراكهما في مسقط الراس، ومصرة على ضرورة استمرار العلاقة الغرامية بينهما، وبين قسرية الثقافة التي تعيد رسم الفوارق والتذكير بالاختلاف والمتمثلة في "اب ايصابيل" الذي يطل براسه في الرواية ليعيد رسم النظام. ان والد ايصابيلا بكل احالته الدلالية لاستمرارية جينية خفية تعطي للتاريخ الاصلي ضروراته الواقعية، حيث يقف سدا منيعا لاية إمكانية استكناه تاريخ جديد يمكن ان يجمع سعيد المورو بايصابيلا الكاثوليكية، وتبدأ هنا كل الأطراف المشكلة للمتقابل الثقافي في الرواية " ايصابيلا، ام ايصابيلا ، ابوها و سعيد" لعبة التعاريف المستفزة للانتماء و للوطن و للهوية والدين. فاذا كان اب ايصابيلا يرى وعلى لسان ايصابيلا "ان اختلاف ثقافتنا وديننا وتربيتنا سيجعل حياتنا المشتركة جحيما" واذا كان سعيد المنتمي لثقافة انسانية كونية و الذي زاده تعلقه بايصابيلا الى حد انه و بعدما استعرضت مبررات الاختلاف الثقافي و الديني الذي تقدمت به ايصابيل كمحفزات للافتراق، قال انه" منذ تعرف اليها لم يعد يعرف نفسه لا من اين هو، و لا باية لغة يحلم" اما الام ففي غياهب الذاكرة وروائح تطوان ترى الوطن و على لسان ايصابيلا " انتم لا تعرفون معنى الوطن و تعتقدون انه يسري في الشرايين وفي الدم ويرتبط الاسم باللغة وبالوراثة ….. الوطن نسيم وعبير و روائح عطور ونباتات و نعناع، الوطن …. ابدي مستمر و لاراد لحبه ولا ينتهي في الحدود الجغرافية "، ان اللغة المثقفية هذه للدفاع عن الهوية والاختلاف والتي يمكن ان تجد مجالات التلاقي والتلاقح واخرى للتفارق والتضاد والتناحر بسبب بعض المناحي الداعية اليها في الثقافة المعاصرة، لا يمكن فهم فشلها في ايجاد ارضية صلبة دائمة للتلاقي والتلاقح الا ضمن دعامات معرفية اخرى جاثمة على رؤوس الاحياء اغفلته ابرز الدراسات التي تناولت الاستفراق او الاستشراق الاسباني كدراسة خوان غويتيصولو او دراسة سالم يفوت ، انه ذاك الماضي الثقافي الشعبي الذي أصبح جزءا من المتخيل الاسباني عن المورو وضمنه صور عن الذات الاسبانية وعن ماضيها، مندغمة مع الاهواء والتحيزات والافتراضات كما نجدها بادية في العمل الموسوعي الروائي الاشتمالي لميكاييل سرفانطيس، حيث تاسست الصور النمطية والبديهيات الطبيعة والنزوعات والتكوينات العقائدية القارة للمتخيل الاسباني عن "المورو" فعندما توقفت "بالوما" لتستفسرعن ختان الموروس واضافت ان "الختان يزيدهم فحولة" فقد كانت تحيل الى مرجعية اخرى صارمة ممؤسسة تكتسب طبيعة السلطة الفكرية والانشائية كما يصوغها بقوة وفعالية خاصتين، فهم الحاضر للماضي وأنهاج تاويله له. ورغم كون سعيد حاول تذكير "بالوما" بان المعتقد السائد عن المورو عبارة عن " حكايات شعبية لا اساس لها من الصحة ولا فرق بين الرجال موروس كانوا ام مسيحيين" الا انه لم يغير شيئا في نظرتها للامور لانها طلبت ان تتاكد من هذا الامر عمليا. ان عملية الافتراق بين سعيد و ايصابيلا في الرواية لم تأت الا كتحصيل مسبق لعلاقة متشابكة توجد محدداتها في بنية الانتاج الدلالي والقيمي، ولكن هذا الحدث ورغم ذلك يعود ليمنح الصدق والسريانية لموضوع السلطة / الثقافة في مجرى تطور السردية داخل رواية عيون المنفى وليس في هذا مفارقة ضدية.