: كارولين غريغوار يعمل الإبداع بطريقة غامضة ومتناقضة في الغالب. ذلك أن التفكير الإبداعي خاصية مستقرة تحدد بعض الشخصيات، لكنها يمكن أن تتغير بحسب السياق. ففي معظم الأحيان يتكون عندنا انطباع بأن الإلهام والأفكار، كلاهما ينشأ في أي مكان، ويختفي في اللحظة التي نحتاج فيها إليه أشد الاحتياج. ويتطلب الفكر الإبداعي إدراكا معقدا، ومع ذلك فهو مختلف عن صيرورة التفكير . يقدم لنا علم الأعصاب صورة جد معقدة حول الإبداع ،وكما يفهمه العلماء اليوم، فالإبداع معقد جدا، وهو يسمح لنا بالتمييز بين الجزأين الأيمن والأيسر من الدماغ (نظريا: الدماغ الأيسر عقلاني وتحليلي، في حين أن الدماغ الأيمن إبداعي وعاطفي.). وبالفعل فإننا نعتقد بأن الإبداع يفرض عددا معينا من الصيرورات المعرفية، المسارات العصبية والعواطف، ونحن لا نتمثل لحد الآن، بصفة كاملة، كيف يعمل الخيال .من الناحية السيكولوجية، إذ يصعب تحديد أنماط الشخصيات المبدعة، لأنها على العموم معقدة ومتناقضة، ولديها ميول إلى تجنب العادة أو الروتين. والصورة النمطية “للفنان المعذب” ليست بدون أساس. فالفنانون يمكن أن يكونوا حقا أشخاصا جد معقدين، وتثبت إحدى الدراسات أن الإبداع يفرض تعددا في السمات، السلوكيات والتأثيرات الاجتماعية المجتمعة في شخص واحد وفريد من نوعه. “من الصعب حقا على الأشخاص المبدعين أن يعرفوا أنفسهم، لأن الأنا المبدع معقد أكثر من الأنا غير المبدع” كما قال سكوت باري كوفمان [2]، وهكذا “فالأشياء التي تظهر أكثر هي مفارقات الأنا المبدع …والأشخاص الذين يتخيلون لهم عقول ملخبطة ” إذا لم يكن هناك نمط محدد للمسار الإبداعي ،فعلى الأقل توجد قواسم وسلوكيات متطورة لدى الأشخاص المبدعين الكبار وفيما يلي ثمانية عشر سمة تميزهم : 1-يحلمون كثيرا أثناء اليقظة : يعرف الأشخاص المبدعون ذلك جيدا، رغم ما يمكن أن يكون أساتذتهم قد قالوه لهم : فأن نحلم أثناء اليقظة ليس مضيعة للوقت. وحسب كوفمان وعالمة النفس ريبيكا، أن نترك عقلنا هائما أمر قد يسهل صيرورة “الاحتضان الإبداعي”. ونحن نعلم بالطبع بواسطة التجربة أن أفضل أفكارنا عادة ما تبدو بوصفها تتولد في أي مكان كان، حينما يكون عقلنا خارج ذواتنا. ورغم أن حلم اليقظة يبدو فعلا غير مفكر فيه، هناك دراسة أثبتت بأن هذا، في الواقع، يتطلب نشاطا كبيرا للدماغ، فحلم اليقظة يمكن أن ينتج روابط وأفكارا مباغتة، لأن هذا النشاط مرتبط بقدرتنا على الاحتفاظ بمعلومة في لحظة تشتت الذهن. وقد اكتشف علماء الأعصاب أيضا أن حلم اليقظة يفرض نفس الصيرورة المعرفية التي يتطلبها التخيل والإبداع. يلاحظون كل ما يحيط بهم : إن العالم ينتمي إلى الأشخاص المبدعين، فهم يرون الإمكانات في كل مكان، ويجمعون باستمرار المعلومات التي تصبح مبررا للتعبير الإبداعي، وكما قال هنري جيمس “لاشيء يضيع عند كاتب ما”. لقد كانت الكاتبة جون ديديون تحمل معها دائما دفترا صغيرا، وكانت تدون ملاحظاتها حول الناس والأحداث التي يمكن على مدى معين أن تسمح له بفهم أفضل تعقيدات ومتناقضة روحه الخاصة. كتبت ديديون في مقال حول الحفاظ على جهاز كمبيوتر محمول “حينما نسجل كل ما نراه من حولنا، سواء بشكل دقيق أم لا، فإن القاسم المشترك بين كل ما نشاهده هو دائما هذا العنيد بصورة وقحة الذي هو أنا ” يعملون في الأوقات التي تناسبهم : يؤكد عدد من المبدعين الكبار على أنهم يعملون بصورة أفضل إما مبكرا جدا في الصباح أو في آخر المساء. فقد كان فلاديمير نوبوكوف يشرع في الكتابة بمجرد ما أن يستيقظ في السادسة أو السابعة صباحا. بينما كانت عادة فرانك لويد رايت هي الاستيقاظ في الثالثة أو الرابعة صباحا والعمل على امتداد ساعات، قبل الرجوع للنوم ثانية . وكيفما كان وقت العمل، ينتهي الأشخاص المبدعون جدا في الغالب إلى معرفة الساعة التي يكون فيها عقلهم في أتم استعداده للعمل، وينظمون أيامهم وفق ذلك. يأخذون الوقت في البقاء وحيدين : يقول عالم النفس الوجودي الأمريكي رويو ماي “لكي نظل منفتحين على الإبداع يجب أن نتوفر على قدرة الاستعمال البناء للعزلة، ينبغي أن نتجاوز الخوف من البقاء وحيدين ” ورغم أن هذه العزلة ليست ضرورية، لكن يمكن أن تكون هي سر إنتاج أجمل أعمالهم.وبالنسبة لكوفمان، فهذا يرتبط بأحلام اليقظة. فنحن في حاجة إلى لحظات العزلة لكي نسمح لعقولنا، بكل بساطة، أن تهيم. فهو يقول “يجب أن تظلوا على صلة بهذا الحوار الداخلي أو المونولوغ، من أجل التعبير عنه “”فمن الصعب أن تجدوا هذا الصوت الإبداعي فيكم إذا لم تبقوا على علاقة بأنفسكم، ودون أن تفكروا في وجودكم” يتجاوزون عوائق الحياة : إن جزءا كبيرا من القصص والأغاني الأكثر دلالة تم استلهامها من الآلام الشديدة والأحزان الممزقة. والارتياح الوحيد الذي يمكن أن نجده أمام هذه المصاعب هو، بدون شك، كونها كانت في أصل الإبداعات الكبرى. وفي ميدان جديد لعلم النفس يختص بدراسة النمو بعد الصدمات، هناك إشارة إلى وجود كثير من الناس يستطيعون تحويل مصاعبهم وصدماتهم التي عاشوها خلال طفولتهم إلى نمو خلاق ذي أهمية. ويبين الباحثون بدقة كيف يمكن أن تساعد الصدمة النفسية الناس على تطوير مجالات العلاقات البين -شخصية، الزوجية وتثمين الحياة، أو أيضا القوة الشخصية. وما يهم أكثر، بالنسبة للإبداع، هو أنها تسمح لهم بأن يروا إمكانات جديدة تتيحها الحياة. يقول كوفمان : “هناك عدد من الأشخاص الذين لهم القدرة على استعمال ذلك كمحرك يسمح لهم بتخيل آفاق متعددة للواقع” و ما يحدث “هو أن نظرتهم للعالم كمكان مضمون انكسرت في لحظة معينة من حياتهم، ودفعتهم إلى الاتجاه نحو أقصى ما يمكن الذهاب إليه والنظر إلى الأشياء تحت منظار يوم جديد، وهذا يشجع على الإبداع”. يبحثون عن تجارب جديدة: يعشق الأشخاص المبدعون تعريض أنفسهم للتجارب أو الأحاسيس الجديدة، وإلى حالات ذهنية جديدة، ويعد هذا الانفتاح مؤشرا هاما على الإنتاج الإبداعي .يشرح كوفمان هذا قائلا : “الانفتاح على التجربة دائما هو المؤشر الأكثر قوة على الإنجاز الإبداعي وهذا “يشمل جوانب مختلفة، ولكن مترابطة فيما بينها : الفضول الفكري، البحث عن الإثارة، الانفتاح على العواطف والانفتاح على الخيال. فما يجمع بينهم هو السعي إلى الاستكشاف المعرفي والسلوكي للعالم، لعالمنا الداخلي والخارجي على السواء “. يفشلون : المثابرة هي الشرط المسبق تقريبا للنجاح في الإبداع، حسب كوفمان. يوصف القيام بعمل إبداعي كصيرورة ترتكز على الفشل مرارا وتكرارا إلى حين إيجاد شيء ملائم، والأشخاص المبدعون، على الأقل الذين ينجحون، يتعلمون عدم اعتبار الفشل شيئا شخصيا. كتب ستيفان كوتلر في مقال حول عبقرية أينشتين “الأشخاص المبدعون يفشلون وأولئك الذين يعتبرون موهوبين يفشلون في معظم الأحيان. يطرحون الأسئلة الجيدة : للأشخاص المبدعين فضول يتسم بالنهم الشديد، فهم يختارون عموما أن يعيشوا حياة يدرسونها، وحتى عندما يهرمون يحافظون على فضولهم في موضوع الحياة. بحيث أنهم ينظرون إلى العالم الذي يحيط بهم ويريدون معرفة لماذا وكيف توجد الأشياء على هذا النحو سواء في مناقشة مشوقة أو في لحظات أحلام اليقظة في عزلتهم. يلاحظون الناس : الأشخاص المبدعون الملاحظون للطبيعة والمولعون بمعرفة حياة الآخرين أكثر يحبون عادة ملاحظة الناس، وأحسن أفكارهم هي التي يمكن أن يكونوا قد توصلوا إليها من خلال هذا النشاط.. يقول كوفمان : “لقد قضى مارسيل بروست جزءا كبيرا من حياته في ملاحظة الناس ويدون ملاحظاته التي كانت تظهر في النهاية ضمن كتبه” وبالنسبة لكثير من الكتاب تعد ملاحظة الناس أمرا مهما، فهم ملاحظون جيدون للطبيعة البشرية. يخاطرون : تشكل المخاطرة جزءا من عمل المبدع، وثمة مبدعون كثيرون يحبون ركوب الأخطار في مختلف مظاهر حياتهم. كتب ستيفين كوتلر لفوربيز :”هناك صلة جدية وعميقة بين ركوب الأخطار وبين الإبداع، قلما تؤخذ بعين الاعتبار”. فالإبداع هو فعل إنتاج شيء ما من لاشيء، وهذا يستلزم نشر ما يدور في خلد المبدع لفائدة العموم . وهذا ليس عمل الناس الخجولين. فالزمن الضائع، السمعة السيئة، صرف المال بشكل سيء، كل هذا ينتج عن إبداع جاء منحرفا ” يعتبر كل شيء بالنسبة إليهم فرصة للتعبير: كان نيتشه يعتبر أن الحياة والعالم يجب أن ينظر إليهما كعملين فنيين. والأشخاص المبدعون ربما لديهم الميل أكثر إلى رؤية العالم بهذه الطريقة والبحث بصفة مستمرة عن الفرص للتعبير في الحياة اليومية. يقول كوفمان : “التعبير الإبداعي من التعبير الفردي” وبالتالي “فالإبداع ليس شيئا أكثر من تعبير فردي عن حاجاتكم ، رغباتكم وعن تفردكم “. يحققون عواطفهم الحقيقية : الأشخاص المبدعون لديهم الميل إلى أن يكونوا محفزين بشكل داخلي .أي أن الدافع إلى الفعل عندهم يأتي من رغبة داخلية وليس من رغبة الحصول على الاعتراف أو المكافأة.وقد أثبت علماء النفس أن الأشخاص المبدعين يجدون طاقتهم في الأنشطة الصعبة مما يعد علامة على التحفيز الداخلي ،ويرى الباحثون بأن التفكير في الأسباب الداخلية يمكن ببساطة أن يكون كافيا لتقوية الإبداع .”إن المبدعين اللامعين يختارون أن يصبحوا متورطين في مشكلات صعبة ومحفوفة بالمخاطر مما يمنحهم الشعور بالقوة المستمدة من قدرتهم على استعمال مواهبهم .”كما ذهب إلى ذلك كل من كولينز وأمابيل في “دليل الإبداع “. يخرجون من” أذهانهم”: يدعم كوفمان الفكرة القائلة بأن الهدف الآخر من أحلام اليقظة هو أن يساعدنا على الخروج من آفاقنا الخاصة المحدودة واكتشاف طرق أخرى للتفكير يمكن أن تكون منبعا هاما للإبداع .”يسمح لنا حلم اليقظة بنسيان الحاضر”وفق شرح كوفمان “إن الشبكة الدماغية المرتبطة بحلم اليقظة هي نفس الشبكة الدماغية المرتبطة بنظرية العقل -أحب أن أسميها ب”الشبكة الدماغية للخيال “وهذا يتيح لكم تخيل مستقبلكم ،لكن هذا يسمح لكم أيضا بأن تتخيلوا ما يفكر فيه الآخر” .ويشير الباحثون أيضا إلى أن خلق مسافة سيكولوجية ،أي التفكير في مسألة ما، كما لو كانت غير واقعية أو مجهولة أو عندما نراها وفق أفق شخص آخر، أمر يمكن أن يحفز الفكر الإبداعي . يفقدون مفهوم الزمن : ينتبه الأشخاص المبدعون إلى أنهم ،حينما يكتبون ،يرقصون ويرسمون أو يعبرون بطرق أخرى ،يدخلون إلى “المنطقة”،أي في غيبوبة ،الأمر الذي يساعدهم على الإبداع على مستوى عالي .فالغيبوبة حالة ذهنية تتولد عندما يتجاوز الفرد الفكر الواعي لبلوغ حالة أقوى للتركيز اليسير وللصفاء .عندما يكون شخص ما في هذه الحالة ،فهو لا يخشى تقريبا من أي ضغط داخلي أو خارجي ولا من التشتت الذي يمكن أن يعيق أداءه .أنتم تدخلون في غيبوبة عندما تمارسون نشاطا تنجزونه بصورة جيدة ،لكنه يضعكم أيضا أمام تحد ،كما هو الحال في كل مشروع إبداعي .”إن الأشخاص المبدعين وجدوا الشيء الذي يحبونه ،لكنهم اكتسبوا أيضا الكفاية التي تسمح لهم بالدخول في الغيبوبة “،وهي” حالة تشترط توافقا بين كفاءتكم وبين المهمة أو النشاط الذي جعلتم أنفسكم تقومون به”،كما يشرح كوفمان ذلك . يحيطون أنفسهم بالجمال : يميل الأشخاص المبدعون إلى أن تكون لديهم أذواق رفيعة:فهم إذن يحبون أن يكونوا محاطين بالجمال.وتبين دراسة نشرت حديثا بجريدة “سيكولوجيا الإستطيقا ،الإبداع والفن بأن الموسيقيين ،سواء كانوا أعضاء في جوق ،أساتذة للموسيقى أو عازفين منفردين لديهم حساسية مفرطة واستعدادا كبيرا لتلقي الجمال الفني . يربطون بين النقط إذا كان هناك شيء يميز الأشخاص المبدعين الكبار فهو القدرة على لمح إمكانات في المكان لا يراها فيه الآخرون ،وبعبارة أخرى :إنهم يمتلكون رؤية .وهناك عدد كبير من الفنانين والكتاب صرحوا بأن الإبداع ببساطة هو القدرة على الربط بين النقط التي لم يفكر الآخرون قط في الربط بينها . وحسب أقوال ستيف جوبس:فالإبداع “ببساطة هو إيجاد الروابط بين الأشياء ،وحينما تطلبون من الأشخاص المبدعين كيف صنعوا هذا العمل أو ذاك فهم يشعرون بأنهم مذنبين لكونهم لم يصنعونه ،فهم فقط رأوا شيئا ما ،وهذا الشيء طار أمام أعينهم بكل بساطة لأنهم قادرون على بناء العلاقة بين مختلف التجارب التي مروا منها وتركيب أشياء جديدة . يحركون الأشياء : حسب كوفمان يعتبر تعدد التجارب ،أكثر من أي شيء آخر ،شيئا أساسيا للإبداع.فالأشخاص المبدعون يحبون القيام بتحريك الأشياء ،وأن يعيشوا أشياء جديدة،وهم يتجنبون على الخصوص كل ما يجعل الحياة رتيبة أو عادية.يقول كوفمان :”لدى الأشخاص المبدعين تنوع كبير في التجارب ،والعادة هي العدو اللدود لهذا التنوع في التجارب ” يخصصون الوقت للتأمل : يثمن الأشخاص المبدعون قيمة العقل الواضح والمركز لأن عملهم يتوقف على ذلك.وكثير من الفنانين ،المقاولين ،الكتاب ومبدعين آخرين ،مثل دافيد لانش اتجهوا إلى التأمل للوصول إلى حالة الذهن الأكثر إبداعا.ويدعم العلم الفرضية التي تثبت بأن التأمل يستطيع حقيقة أن يثير قوتك الذهنية بطرق مختلفة .وتبين دراسة أنجزت في هولندا سنة 2012 بأن بعض تقنيات التأمل يمكن أن تشجع على التفكير الإبداعي.كما أن ممارسة التأمل لها تأثير على الذاكرة ،على التركيز ،وعلى السلامة النفسية . وهو يسمح أيضا بتقليص التوتر والقلق والارتقاء بالوضوح الذهني والتوصل على هذا النحو إلى أفضل الأفكار الإبداعية .