جان ماري شايفير، مدير الأبحاث بالمركز الوطني للبحث العلمي بفرنسا. واحد من أهمّ الباحثين في مجال المعرفة الإنسانية وحقل الأدب. صدر له «إيكولوجية صغيرة للدراسات الأدبية. كيف ندرس الأدب ولماذا؟» منشورات تييري مارشيز، 2011. «ما الجنس الأدبي؟»، سويْ 1989، لماذا التخييل؟، سويْ 1999، «نهاية الاستثناء البشري»، غاليمار، 2007. يدرج شايفير أبحاثه المختلفة، ذات المنحى «الطبيعي»، أو «الطبيعاني»، تحت راية المعلم الأول أرسطو. فما جاء عاما وجنينيا عند أرسطو ، يحاول الكاتب استثماره لتوجيه تحليله للخيال الإنساني والسرد الكوني وتوسيعه. ومن جهة أخرى ينبذ شايفير وجود خصوصية بشرية لا تسمح بربط علاقات بين القدرات والملكات البشرية، وبين القدرات غير البشرية. لذلك يتوسّل في تحليلاته بمختلف المناهج والمعارف التي تساهم في إبراز العمق الطبيعي للبشر، سواء في تمثّلاتهم وتخييلاتهم وحكيهم. وهو اليوم واحد من أبرز الباحثين الذين نظّروا لمفاهيم الخيال والتخييل باعتبارهما بنية أنتروبولوجية وطبيعية. يتمثل ذلك أولا، في فكرة أن الأنشطة التخييلية والفنون هي عبارة عن «قطاع» واسع من الفنون وأنشطة المحاكاة، وبالتالي يرتكز تحليله على توضيح مفهوم المحاكاة والمفاهيم المرتبطة به مثل مفهومي الخدعة والاصطناع. كما يتمثل ثانيا في فكرة أنه لا يمكننا فهم طبيعة التخييل ما لم ننطلق من الميكانيزمات الأساسية لما يسمى «التظاهر»، و«الخداع» والتصنع الخيالي الذي تبدو جذوره وأسسه وتكونه في ألعاب توزيع الأدوار بين الأطفال، وفي أحلام يقظة الطفولة. الأستاذ شايفير، تردد دائما بأنّ أعمالك، منذ البداية، توجد على تخوم الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم الجمال والأدب. هل معنى ذلك أنك تعلن انتهاء عصر التخصص؟ إن التكامل فيما بين هذه التخصصات لا يمنع من الاحتفاظ بهوية كل منها مستقلة. التكامل تفرضه نوعية المقاربة التي تتغيّا أن تكون غنيّة، خصوصا حين تكون الموضوعات معقّدة . لذلك حين يكون الباحث متمكّنا من منهجه، لا يخاف من الدوران بين النظريات التي تسمح له بالتفكير الذاتي في موضوعاته بعيدا عن تصوّر وجود خطر التكامل المنهجي. - هل هذا هو السبب الذي يجعلك تعتمد على علوم الحياة، وعلوم الحيوان وعلوم مجاورة لا تتصل بالإنسان مباشرة؟ - في كتابي «نهاية الاستثناء البشري»، أسعى إلى دحض الفكرة الجاهزة الموروثة التي تعتبر أن للإنسان خصوصية غير طبيعية. لذلك اجتهدتُ في التدليل على أنه خارج القدرة اللغوية للإنسان، فإن هذا الأخير يتصل طبيعيا بكائنات يشترك معها في قدرات تعبيرية عديدة من أبرزها قدرة المحاكاة التي تبدأ بالحركات وتنتهي بالتخييل والسرد. هل معنى هذا أنك ترفض الانغلاق المعرفي داخل منهج بذاته؟ إن موضوعات البحث اليوم هي التي تتنافى مع الانغلاق في خانة واحدة. فأنا مثلا أشتغل في حقل الدراسات الأدبية العامة، أو ما يُطلق عليه عموما «الإستتيقا» الذي يهتمّ بالوقائع الأدبية باعتبارها منتوجات لفظية وغير لفظية موضوعها العالَم. أقصد العالم هنا في مختلف تعقيداته البشرية وغير البشرية. من ثمة إذن فإنّ أيّة إضافة منهجية من أية مادة تكون مفيدة، لكن ضمن تصور موحّد، هذا هو المهمّ. الدخول إلى عمق الأشياء، وتقليب مختلف مستويات التحليل، يفرضان إقامة توازيات ومجابهات بين المواد والفرضيّات والمعارف التي تبدو بعيدة في السطح. غير أن المسألة ليست اختزالية. لا يتعلق الأمر بنقل أدوات تحليلية معزولة عن سياقاتها. الأعمال الفنية التي تكون لفظية هي بمثابة خطابات، وتنتمي أيضا إلى مجال التحليل اللساني. غير أن هذا لا يعني البتّة بأنه يمكننا تعويض التحليل السردي، مثلا، أو الشعري بالتحليل اللساني المحض. لأنه في هذه الحال سوف نغفل بأن الواقع السردي أو الشعري هو واقع من الدرجة الثانية بالقياس إلى الواقع اللغوي. لذلك إذا كنتُ أعتبر الإنتاج اللغوي والتخييلي مسألة بشرية طبيعية ومشتركة، فإنه في المستوى الثاني ننتقل إلى تخييل لعبي ومغلق. . هل يمكن، في هذا السياق، أنْ توضّح الفرق ما بيْن الخيال والتمثّلات؟ الخيال هو عملية داخلية للإنتاج التمثلي. وتتميز مثل هذه العملية بسمتين أساسيتين: أولاهما، أنّه لا ينتمي الموضوع، المستهدَف عبر التمثل، إلى التكوّن السببي لهذا التمثل. وبعبارة أخرى، إن هذا الأخير يتم إنتاجه بدافع ذاتي للشبكة التمثلية ذاتها ( ولتكوين فكرة ملموسة أكثر عن الموضوع، يكفي التفكير في أحلام اليقظة. وفي المقام الثاني، تعد معالجة التمثلات مفصولة عن أية حلقة استعادية مع عالم الإحالة الذي تضعه هذه التمثلات. لذلك تعتبر أنّ التمثّل، كيفما كان، لا يمكن أن يكون له محتوى معرفي إلا إذا كان ما يطرحه أو يثبته له بعد معرفيّ؟ إذا كنت أدافع عن فرضية وجود معرفي بالقوة للمتخيل أو للتخييل، فإنني لا أنتصر، رغم ذلك، لصالح نظرية «كل شيء معرفي». أعتقد، بالعكس، أن اختزال التمثلات في الوظيفة المعرفية ليس مبررا البتّة. وإذا كان هذا الاختزال منتشرا جدا، فذلك لأنه لا يتم التمييز، بما فيه الكفاية، بين ما ينتمي إلى طبيعة التمثلات، وبين ما ينتمي إلى خصائصها، وبين ما ينتمي إلى وظائفها. فكل التمثلات تتوفر على البنية القصدية ذاتها، وعلى «الطبيعة» نفسها: إنها تتحدد باعتبارها علاقة إرجاع وإحالة. هل نفهم من هنا أنّ عنصر الإحالة حاسم في هذا التعريف؟ إنّ الذي يجعل من عملية تمثلية ما عملية معرفية، لا يكمن في نوعية التمثلات (مثل التمثلات ذات القيمة الإحالية) التي تبلورها هذه العملية وتعالجها، وإنما في الوظيفة التي تلعبها هذه العملية في الحياة الذهنية. والحال أن العمليات التمثلية تلعب وظائف متعددة، وليست الوظيفة المعرفية (أي إعطاء قيمة قصوى لملاءمتها المعلومية) سوى وظيفة من بين وظائف أخرى. وكما أن استعمالات اللغة لا يمكن أن تقتصر على الاستعمال الوصفي، فإن استعمالات التمثلات لا يمكن أن تقتصر على دورها المعرفي. هل التمثّل البشري جزء من الواقع البشري؟ إن التمثل، سواء أكان ذهنيا أم مُعلنا، هو كذلك جزء من الواقع. علاوة على ذلك، فإن الكائن البشري هو نفسه مظهر من هذا الواقع الذي يتمثله، الأمر الذي يعني أن هذا الكائن هو أحد القوى السببية لهذا الواقع. وأخيرا، فإن الواقع، بدوره، في جزء لا يستهان به، هو واقع مُؤَنسَن ، وفي هذا المجال، فَالأشياء ليست أبدا مجرد «ما هي عليه»، وإنما هي «ما فعلناه نحن بها». وبالتالي، فإن جزءا مما صنعته يد الإنسان، يمكن أن تهدمه وتقوّضه يده. إن وظيفة اليوطوبيات، وإذن هذا الصنف الخاص من التمثلات الخيالية التي هي التمثلات المضادة للواقع، هي، بالضبط، تعويض (في أسوء الأحوال وأحسنها) آثار التثبيت والتجميد المفرط، الناتجة عن الاستعمال المعرفي للتمثلات: وهي تقوم بذلك عن طريق إسقاط عالم واقعي مضاد للواقع ينحلّ فيه هذا التثبيت. من الملاحظ أنّ الخيْط الناظم لكتاباتك هو التخييل بوصفه طبيعة بشرية. هل معنى ذلك أنك لا تلتفت إلى الخصوصية الأدبية والإبداعية؟ التخييل، بطبيعة الحال، هو استعمال للخيال. إنه ينتمي، على وجه الدقة، إلى ميدان التمثلات التخييلية التي تستدعي، لكي تعمل بصورة صحيحة، أن يكون هناك وعي بطابعها المتخيل. يترتب على هذا، أنه في هذه الحال كذلك [حال التخييل] سرعان ما يكشف التعريف الدلالي المحض عن حدوده. إن مسألة معرفة ما إذا كانت لتمثل ما، أو لم تكن له، قوة إحالية، هي مسألة فعلية؛ بمعنى أن الإجابة عنه ترتبط فقط بوجود أو عدم وجود حالة مخصوصة: فإما أن الأشياء هي كما يطرحها التمثل، وإما أنها ليست كذلك. إن التخييل، بالعكس، يصدر عن قرار، بل وعن ميثاق تواصلي، فيما يخص الاستعمال الذي يقرر المرء القيام به لبعض التمثلات، وبالأخص استعمال يرتكز على وضع مسألة قوّتها الإحالية بين قوسين. وللتعبير عن هذا بطريقة أخرى، أقول: إن ما يهم، في حالة التخييل، ليست هي معرفة ما إذا كان لتمثلاته، أمْ لمْ يكن لها، بعد إحالي، وإنما هو تبنّي موقف قصدي لا أهمية داخله لمسألة الإحالة. أما التخييل الأدبي والفني، فأعتبره تخييلا مغلقا ليس له بعد إحالي أو نفعيّ. هل هذا هو السبب الذي يجعلك، إلى جانب باحثين أمثال لوران جيني، تربط التخييل الفني والأدبي بالإبداع اللّعبي؟ هنا كذلك يتعلق الأمر بتمييز طبيعاني، كونيّ إذا صحّ التعبير. هناك، من جهة، التخييلات الأداتية التي تنتمي إلى دائرة النشاط «الجدي»، بينما تنتمي الألعاب التخييلية، وكذا التخييلات الفنية، إلى الدائرة «اللعبية»، بالمعنى الذي يشير إلى أننا ننخرط فيها بكل حرية، ومن أجل الإشباع الذاتي الذي توفره لنا. ينبغي تسجيل كون العلاقة بين التخييل والدائرة الفنية ليست علاقة احتواء وتضمّن، بقدر ما هي علاقة تقاطع. لكن الأهمّ هو التركيز في الفن على مفهوم المحاكاة. بعبارة أخرى، تستفيد العمليات المعرفية من تحليلها بمصطلحات تفاعلية، على اعتبار أن العملية المعرفية نمط من التفاعل بين الكائن البشري وبين العالم الذي يعيش فيه. فما نوعية هذا التفاعل إذن؟ للذهاب نحو ما هو أبسط، يمكن تحديد العلاقة المعرفية باعتبارها علاقة نترك داخلها العالم يؤثر ويفعل فينا من أجل أن نصنع منه نموذجا يكون مطابقا لتفاعلاتنا المستقبلية مع العالم تكون أكثر ملاءمة بالمقارنة مع تفاعلاتنا السابقة. ما يهم، هو أنه حين نتناول مسألة العلاقة المعرفية من هذه الزاوية، فإننا ننقلها من حقل دلالة التمثلات نحو حقل استعمال مخصوص للتمثلات، وإذن نحو تساؤل ذي طبيعة براغماتية. وهذا هو السبب الذي يجعلني أفضّل الحديث عن صلاحية النموذج الذهني المشيَّد والمتبلور عوض الحديث عن حقيقته: فمهما تكن الكيفية التي ترتبط بها تمثلاتنا بما تمثله، وهو السؤال الذي لم ننجح، فيما يبدو لي، دائما في تقديم جواب كاف عن، فإن التصديق الحقيقي لبعدها المعرفي يكمن في نسبة نجاح أو فشل التفاعلات المستقبلية مع العالم الذي نُنَمذجه. هذا الانتقال نحو المحور البراغماتي له فائدة مباشرة من أجل فهم أفضل للمتخيل. فحين نختزل التمثلات المتخيلة في وضعها الدلالي، أي حين نركز على غياب قوتها التعيينية، فإننا نجد أنفسنا عاجزين أمام حدّ داخلي لهذه التمثلات، أي الحد الذي يفصل العمليات المتخيلة التي تعي نفسها بصفتها عمليات، عن تلك التي تجهل نفسها. إن تحديد المتخيل باعتباره «ما لا يوجد إلا في المخيلة؛ والذي لا واقع له»، معناه أن نقترح له تحديدا لا يبالي بهذا الحد. ومع ذلك، فقد سبق لدافيد هيوم أن شدّد على هذا الفرق، بتمييزه بين الكيانات المتخيلة التي تعمل كأوهام معرفية( مثل مفهوم السببية أو مفهوم وجود ذات موحدة) وبين الكيانات المبتكرة عن وعي بصفتها كيانات، ولا تؤدي إلى المعتقدات (مثل تخييلات الفنانين). ثم إنه بالإمكان التعبير عن الفرق بين نوعيْ المتخيل بطريقة أخرى: ذلك أنّ الوضع المتخيل للتمثلات، التي توضع باعتبارها تمثلات متخيلة، يمكن الوصول إليها دائما بضمير المتكلم. وبالعكس، فإن الوضع المتخيل للتمثلات التي تجهل طابعها التخييلي، لا يمكن الوصول إليها إلا بضمير الغائب. وبالتالي، هذا يعني أننا لا نعرف أبدا إلا الأوهام المعرفية للآخرين، وليس أوهامنا: لهذا السبب تكون الإيديولوجيا التي نشجبها هي دائما إيديولوجيا الآخر وليست إيديولوجيتنا نحن. غير أن التخييل ليس فقط محاكيا (بالمعنى الأفلاطوني) حيث يخلق مشابها؛ إنه كذلك محاكاتي (بالمعنى الأرسطي) حيث يخلق نموذجا للواقع، بالمعنى الدينامي وليس عبر علاقة إعادة الإنتاج. كيف تحدّد مفهوم الرومانيسك، الذي يبدو أنك تعطيه وضعا اعتباريا أوسع وأعلى من مفهوم الجنس الروائي أو غيْره؟ الرومانيسك، في المقام الأول، مصطلح لا يُستعمل في حقل الدراسات الأدبية فحسب، بل في الحياة اليومية كذلك. إنه مصطلح ينتمي إلى المفردات المشتركة، كما ينتمي إلى المفردات العالِمة. والجميع يعلم، أيضا، أن المصطلح الذي اشتق منه، أي مصطلح «رواية»، كان يشير في الأصل ليس إلى وقائع أدبية، وإنما إلى وقائع لسانية. وفي المقام الثاني، لا يقتصر الحقل التعييني، لمصطلح «رومانيسك»، على الحقل الأدبي، ولا حتى على الحقل الفني. إنه يستعمل لتوصيف ليس فقط طريقة أو طرق التشخيص، بل طريقة أو طرق العيش كذلك. وهذا يطرح مسألة العلائق المحتملة بين المجالين، [مجال التشخيص ومجال الحياة] : في سياق المنطلق الطبيعاني الذي يتحكّم في كتاباتك، كنت قد خصصت كتابا هاما لدراسة الأجناس التعبيرية، بما فيها الأجناس الأدبية. ويلاحظ المتتبّع لتحليلاتك بأنك تختلف عن التوجّه الدلالي لواحد مثل جيرار جنيت مثلا. هل هذا القول صحيح؟ في المستوى الأول، تُعتبر الأجناس التعبيرية مسألة بشرية وكونية بغض النظر عن الوسيلة والأداة. لذلك نلاحظ وجود تقاطعات هي في العمق علاقة نسب داخلية. وهو الأمر الذي يصدق على الجنس الأدبي. لنأخذ الرواية، مثلا، بصفتها جنسا، إنها طبقة نصية توحدها علاقات جينيالوجية استعادية مع تقليد الرواية في الغرب. ومن ثمّ فهي تحيّن، مهما كانت نوعيتها وموضوعاتها، عناصر سردية تأسيسية وتراكمية. من ثم، فالمنطق الأجناسي للرواية لا يتحدد فقط لا بواسطة معايير تأسيسية (كما هي الحال في أفعال اللغة)، ولا بواسطة معايير ناظمة (كما هي الحال، مثلا، في الأشكال الشعرية الثابتة)، وإنما يتحدد بواسطة علائق التقليد التاريخي. في السياق نفسه يبدو أنك تميّز من جهة بين الجنس كجنس، الرواية أو الشعر أو المسرح، وبين الرومانيسك من جهة ثانية كمستوى أشمل. وهذا أمر واضح في مقالتك التي تحمل العنوان نفسه. يمكن تأويل مفهوم «الرومانيسك» من منظور أجناسي. فهو يملك، في الحقيقة، معنيين كبيرين: معنى أجناسيا، ومعنى موضوعاتيا. وهكذا يمكن الانتقال، عند الضرورة، من تحديد أجناسي («الجنس الروائي»، «الأدب الروائي»، «الأسلوبية الروائية» إلخ)، إلى تحديد موضوعاتي («العالم الروائي»، «السلوك الروائي» إلخ). وبطبيعة الحال يوجد قاسم مشترك بين المعنيين، إذ أن هناك حالات تاريخية عديدة لل «رواية»، باعتبارها تعيينا أجناسيا جنيالوجيا، تتطابق فيها مع نمط معين من المحكيات التي تصوغ صوْغاً موضوعاتيا الرومانيسك بالمعنى الموضوعاتي للمصطلح، أي من حيث هو بنية مرتبطة ببنيات سردية سابقة وراهنة. ومن هنا فإنّ حضور الرومانيسك لا يمكن أن يقتصر على ميدان التخييل الروائي. هكذا، إذن، نجد عناصر وملامح روائية في العديد من الكتابات غير الأدبية كالمحكيات الشعبية الشفهية. لا ينبغي، إذن، حصر سؤال الرومانيسك في سؤال الأدب « الكبير». فإذا رغبنا في الإبقاء على مثل هذا التضييق والحصر، قد لا نلتفت إلى الأهمية التي تحتلها الموضوعاتية الرومانيسكية في الثقافة المعاصرة، وفي أشكال تعبيرية حديثة كالسينما مثلا التي يحضر فيها الرومانيسك قويا مع التخييل. التخييل مسألة طبيعية، أو نمط أصلي archétype، إنساني بالنسبة لك. فهل ربطك للرومانيسك بالتخييل يلحقه بدوره بدائرة الأنماط الأصلية؟ لقد سبق أن أوضحت هذه العلاقة في مناسبات عديدة، وخصوصا في كتابي «لماذا التخييل؟». وباختصار، فما أسعى إلى إبرازه، هو أن الرومانيسك، في حقيقة الأمر، يمكنه توظيف كل أشكال وأنماط القدرة التخييلية. وباختصار، إنه يشكل أحد الموضوعات الكبرى للتخييل، أي للقدرة التخييلية كما للفنون التخييلية. وهو من هنا بالفعل أحد الأنماط الأصلية للنمذجة التخييلية، أو لكي نتحدث مثل أندري جول، أحد الأشكال البسيطة للتخييل، أو كذلك هو أحد التوليفات لتوليد العوالم التخييلية. تقول بأنّ الرومانيسك الحديث، الذي تجسّده السينما، أضفى عليه بعدا عالميا وكوْنيا؟ أجل، والنموذج الكبير والجليّ السينما الهوليودية. وأنْ يكون الرومانيسك السينمائي الهوليودي، في هذا الصدد، قد نجح في الانتشار بسرعة كبيرة على الصعيد العالمي، فإن ذلك يبدو مؤشراً على أن الإيطوس الرومانيسكي يجد أصداء قوية جدا في الثقافات الأخرى. ومن المؤكد أن القوة الاقتصادية للولايات المتحدة لها دخْل في هذا النجاح. لكن، رغم هذا الكلام، ينتظرنا دائما البحث في الأسباب التي تجعل الناس يحبون الرومانيسك الهوليودي. وبتعبير آخر إن وصول الكائنات البشرية إلى تطوير رؤية رومانيسكية للأشياء، وتمكن هذه الرؤية، في عصرنا، من أن تستوعب بكل سهولة من الثقافات المختلفة، يبدو أنهما يشيران، بالنسبة لي، إلى أن الرومانيسك يجد نقط التقاء سيكولوجية مشتركة جدا، بعيدا عن كل الاختلافات الثقافية.