أقفل البرلمان الاسباني أبوابه يوم الخميس 25 يوليوز من هذه السنة بجلسة ساخنة للتصويت في الدور الثاني على مرشح الحزب الاشتراكي لتشكيل الحكومة بعد فوزه المحدود في انتخابات 28 أبريل الفارطة، وضد كل التوقعات لم يستطع اليسار الاسباني بعد 80 يوما من المفاوضات من الاتفاق على تشكيل حكومة ائتلافية. وعرفت الأيام الأخيرة قبل جلسة التنصيب مفاوضات ماراطونية بين الحزب الاشتراكي وحزب بوديموس من اليسار الجديد استمرت إلى غاية الجلسة الأخيرة للتصويت ، وتخللت هذه المفاوضات بشكل غير مسبوق في تاريخ اسبانيا الديمقراطية مشاذات بين زعيمي الحزبين وتسريبات من الطرفين لتفاصيل الحوار بهدف الإحراج والضغط المتبادل. عبد الحميد البجوقي مقاعد الحزبين اليساريين تعطي أغلبية 165 صوت كافية للفوز على اليمين الذي لايجمع بين أحزابه الثلاثة وبعض الأحزاب الجهوية أكثر من 153 صوت، كما أعلنت بعض الأحزاب الجهوية الباسكية والكطلانية بما فيها الحزب الجمهوري الكطلاني دعمها للتحالف في حالة الوصول إلى اتفاق بين الحزبين، وبدا في اللحظات الأخيرة بريق أمل الاتفاق بين الحزبين بعد التنازلات التي قدمها حزب بوديموس ورضوخه لعدم ترشيح زعيمه بابلو إغليسياس للإستوزار، وعرض الاشتراكيين لأربعة مقاعد وزارية أهمها الصحة و الشغل والشؤون الاجتماعية مع التقليص من صلاحياتها ونقلها لوزارات أخرى من نصيب الاشتراكيين. هذا العرض اعتبره تحالف اليسار الموحد وبوديموس استخفافا به ومحاولة من الاشتراكيين للحصول على أصواتهم مقابل مقاعد فارغة، واستمر شد الحبل بين الحزبين إلى غاية اللحظات الأخيرة قبل التصويت، تخللتها تدخلات تبادل فيها الطرفين تُهم اللامسؤولية بالنسبة لبوديموس والخضوع لضغوط مراكز القرار بالنسبة للإشتراكيين. ما هي الأسباب الحقيقية لفشل تشكيل أول حكومة ائتلافية يسارية باسبانيا؟ ليس سرّا أن الحزب الاشتراكي لم يكن متحمسا منذ البداية لتشكيل حكومة ائتلافية مع اليسار الاسباني الجديد، وكان يحبذ تحالفا أو دعما من طرف وسط اليمين (سيودادانوس) لتشكيل حكومة أقلية والاعتماد على تفاهمات وتوافقات محددة ومنفتحة على كل الفرق البرلمانية، وليس سرّا أن مراكز القرار الاقتصادي كانت تضغط في هذا الاتجاه وتتخوف من التحاق اليسار الجديد بمجلس الوزراء واستحواذه على حقائب حساسة كحقيبة الشغل، لكن هذه الأسباب كانت تخفي سببا أكبر يتعلق برغبة الحزب الاشتراكي في العودة إلى صناديق الاقتراع التي تشير استطلاعات الرأي أنها ستعود باسبانيا إلى القطبية الحزبية، واعتمد الحزب في استراتيجية التفاوض مع اليسار الجديد أسلوب الإنهاك وتسريب بعض تفاصيل المفاوضات المحرجة، والاعتماد على آلته الإعلامية لتحميل بوديموس مسؤولية فشل المفاوضات ونقل صورة الحزب الفتي الذي لا يتجاوز عمره 4 سنوات أنه كان متلهفا على المقاعد بذل البرنامج الحكومي، وأن الحزب الاشتراكي كان كريما بعرضه أربعة مقاعد وزارية، أي بمقعد وزاري عن كل سنة من حياة حزب بوديموس القصيرة. في بوديموس الوضع يختلف، الحزب يمر بأزمة تنظيمية عميقة بعد حملة التطهير التي قادها زعيمه ضد أغلب رفاقه من المؤسسين واستفراده وزوجته إيريني مونطيرو بمقاليد الحزب والفريق النيابي، كما أن الحزب حصد في الانتخابات الأخيرة تراجعا في عدد الأصوات واالمقاعد، وعرف استقالات وانسحابات لقيادات جهوية ووطنية وازنة، كما توالت أصوات الغاضبين من تدبير الزعيم بابلو إيغلسياس للحزب وأخطائه المتوالية.وكان الدخول إلى الحكومة بمثابة قارب نجاة للحزب الفتي وفرصة لتطبيق بعض وعوده الانتخابية واستعادة شعبيته وأصواته التي فقدها في الاستحقاقات الأخيرة وفرصة لربح الوقت لاعادة ترتيب البيت الداخلي المُشتعل. واستطاع زعيم الحزب بشهادة خصومه أن يدير المفاوضات بذهاء، وأن يجهض محاولات فريق محنك من المفاوضين عن الحزب الاشتراكي محاصرته وتقديمه أمام الناخب اليساري كمسؤول عن فشل المفاوضات وافتقاره لمؤهلات المشاركة في الحكومة، لكنه لم ينجح في تجاوز الطريقة التي عامله بها المرشح الاشتراكي لرئاسة الحكومة حين نبهه أن العرض الاشتراكي الأخير غير قابل للنقاش، وفقط يحتمل الجواب بالقبول أو الرفض، وهي الطريقة التي اعتبرها زعيم اليسار الجديد مُهينة وانتهت بامتناع نواب بوديموس عن التصويت وعودة العداد إلى الصفر. احتمالات تشكيل الحكومة أو العودة إلى صناديق الاقتراع؟ دستوريا يمكن للحزب الفائز أو أي حزب آخر يستطيع تشكيل تحالف أغلبي أن يطلب من الملك تكليفه من جديد لتشكيل الحكومة وعرض برنامجه على البرلمان بدعوة من رئيسته في أجل لا يتجاوز الشهرين بعد التصويت الأخير، ونظريا يمكن للزعيم أن يحظى بالتكليف الملكي قبل نهاية شتنبر القادم، كلا الحزبين اليساريين أعلنا استعدادهما لمواصلة المفاوضات وتجديد المحاولة الأخيرة قبل التوجه إلى صناديق الاقتراع، وفشل المحاولة من جديد يؤدي أتوماتيكيا إلى انتخابات تشريعية جديدة في نوفمبر القادم. سياسيا تشير أغلب التحاليل إلى استحالة الوصول إلى اتفاق بين الطرفين لأسباب يتعلق بعضها بمستوى التوتر وفقدان الثقة بين الحزبين والزعيمين، وبالخصوص بعد المواجهات العنيفة التي رافقت فشل تشكيل الحكومة، وبعضها يتعلق بمتغيرات منتظرة في المشهد السياسي الاسباني مع بداية شهر شتنبر القادم، أهمها صدور الأحكام في حق معتقلي حركة الانفصال يتقدمهم زعيم الحزب الجمهوري الكطلاني ونائب رئيس حكومة كاطالونيا المتهمة بتنظيم الاستفتاء غير القانوني على الاستقلال، وينتظر أن تعرف كاطالونيا من جديد تصعيدا بسبب الأحكام المنتظرة وتوافقها مع العيد الوطني لكاطالونيا،وسيكون لهذه الأجواء تأثيرا لا محالة على موقف الأحزاب الجهوية والتصعيد من شروط دعمها إلى حدود لايمكن للحزب الاشتراكي قبولها. تقديري أن إسبانيا تتجه من جديد إلى انتخابات تشريعية في نوفمبر القادم، والتوقعات تشير إلى صعود ملموس للحزب اللاشتراكي واسترجاع الحزب الشعبي لعدد كبير من أصواته على حساب سيودادانوس (وسط اليمين) دون الحصول على الأغلبية، وتراجع مهول لتحالف بوديموس. مثل هذا السيناريو يعني عودة إسبانيا تدريجيا إلى القطبية والتناوب على الحكم بين الحزبين التقليديين. احتمال ضعيف في سيناريو اتفاق حزب سيودادانوس مع الاشتراكيين على تسهيل انتخاب بيدرو سانشيص رئيسا للحكومة بدعمه في جلسة التصويت أو الاتفاق مع أحزاب أخرى على الامتناع عن التصويت. في انتظار ذلك تستمر إسبانيا بدون حكومة منتخبة، ما يضعف دورها في الاتحاد الأوروبي ومفاوضات البريكسيت البريطاني وعلاقاتها بدول الجوار وفي مقدمتها المغرب.