يطرح الموضوع هذا الإشكال الآتي: ما النسائية؟ وهل يمكن اعتبار ابن رشد مفكرا تنويريا؟ أو إلى أي حد يصدق مفهوم الأنوار على العقلانية الرشدية؟ وهل هناك عصر من عصور الفلسفة يسمو على العصور السابقة عنه،أم يجب النظر إلى عصور التاريخ البشري بعين مساواتية؟وما هي أسس فلسفة ابن رشد؟وما هي سمات التصور الرشداني حول المرأة وحول المساواة بين الجنسين؟ بصدد مفهوم النسائية : أعرف أشخاصا كثيرين ضد النسائية بالنظر إلى اعتقادهم بأنها تتعلق بمسألة السلطة بين الجنسين. وفي الوقت الراهن يبدو بأن مفهوم النسائية ينطوي على حمولة سلبية، بحيث أنه يتحدد بتعريفات مغلوطة، وذلك حينما تلحق به صورة متطرفة، وأحيانا كاريكاتورية من خلال تبسيط وتشويه معناه. وهناك الكثير ممن يؤكد بأن النسائية لا تتطلع إلا إلى النساء بوصفهن الأصلح لممارسة السلطة، وهو ما يفترض أن النسائية ليست حركة مساواتية تسعى إلى تحطيم الأساطير الاجتماعية، بقدر ما هي تيار فكري يهدف إلى تحويل البطريركية le patriarcat إلى الأموسية matriarcat بغاية قلب الأدوار وإعطاء السلطة “للجنس الضعيف”على حساب “الجنس القوي” ، ومن هنا يتضح بأن هذا التعريف لا معنى له. من أجل رفع كل لبس أو غموض عن مفهوم النسائية، يمكن أن نقاربه من خلال بعض النقاط الرئيسة، لكي نرى فيما إذا كانت النسائية حاضرة في الخطاب الفلسفي لابن رشد أم لا : النسائية ليست طائفة أو تجمعا سريا ينزع إلى إقصاء الرجال للاستيلاء على سلطة ما،فهي لا تتطلع إلى الهيمنة النسائية على العالم،كما أنها ليست نزعة تدعو إلى كراهية الرجال،فلا علاقة لها بأن تكون النساء ضد الرجال،بل هي حركة تسعى إلى المساواة بين الجنسين،وهو ما ليس له أي ارتباط بالبداهة بكراهية الجنس الذكوري. وإذن يتعلق الأمر بتيار إنساني وثوري حارب بدون هوادة أحكاما مسبقة وأشكالا من اللامساواة بغاية تحسين حياة النساء في عدة مجتمعات عبر العالم. وبحكم ذلك فهو يستحق أن نحمل تاريخه ومقاصده على محمل الجد. وهكذا، فإن النسائية تثمن المساواة وإنصاف الجنسين، وهي لا تسعى إلى جعل النساء متفوقات على الرجال،بل تريد فقط استفادة النصف الآخر من المجتمع من نفس المزايا والامتيازات لتحقيق مجتمع مزدهر بإمكاناته الكاملة. يترتب عما سبق أن النسائية تحلل الشروط الواقعية والراهنة للنساء وتتساءل من بين ما تتساءل حوله عن قلة النساء في دوائر صنع القرار، وعن اللامساواة في الأجور، وعن ظروف الحياة غير المقبولة التي تعيشها النساء، وحول اللامساواة الاجتماعية وعن الصور النمطية المستمرة. إن النسائية ليست شأنا خاصا بالنساء والفتيات،ومدلولها لا يقصي الرجال، بل تطمح بالأحرى إلى انضمام هؤلاء أيضا إلى النضال والكفاح الذي تقوم به. وبالتالي فهي شأن الجميع. فإن وجدنا اقتاعا عند ابن رشد بوجوب معاملة الرجال والنساء بشكل متساو في كل الميادين الاجتماعي،فإن ذلك يجعله منتميا إلى هذه الحركة النسائية. حول “تنوير”و”حداثة”ابن رشد: هناك عدد من المختصين في الرشدية، مثل ألان دو ليبرا الذي ساهم في قيادة مشروع إعادة ترجمة كتب فيلسوفنا الأندلسي ابن رشد، ممن أشادوا بمظاهر حداثة وتنوير سابقين عن الأوان في عقلانية هذا الفيلسوف القروسطوي. وأما القضية الأساسية في فكر ابن رشد فهي مكانة الفلسفة ووضعها القانوني في المجتمع المسلم، وهو مشروع يفهم بالنظر إلى الأسئلة التي كانت مطروحة قبله حول ما دعاه هو نفسه علاقة الحكمة بالشريعة، وقد انتظم تصوره حول هذه العلاقة وفق مفهومين هما الاتصال connexion و الاستمرارية continuité ، وهما ليسا مترادفين من طبيعة الحال، لكنهما يفترضان ضرورة التقارب وضرورة التمييز بين الفلسفة والدين. يعتبر دو ليبرا بأن ابن رشد فيلسوف غربي ما دام أنه أندلسي،مبينا بأنه كان مطلعا على أعمال سلفيه ابن باجة وابن طفيل التي عالجت هذه مسألة مكانة الفلسفة في بلاد الإسلام،وفي إجابة ابن باجة نستشف خيبة أمله في أن يكون للفلسفة شأو داخل هذه البلاد،ذلك أنه في مؤلفه”تدبير المتوحد” ينصح الذين يريدون أن يكون لهم وجود فلسفي أولا وأخيرا بالانسحاب والعزلة بالنظر إلى كون المجتمع عدائيا وبحكم أن المناخ السياسي والديني الذي يعيش فيه الفيلسوف قد يصلح لأي شيء آخر عدا استعمال العقل خلال هذه الحقبة.لا يتعلق الأمر بأن يهيم الفيلسوف على وجهه في الصحراء،وإنما بمعنى شبه باسكالي بأن يغلق على نفسه في غرفة. الإجابة الثانية ما قبل الرشدية كانت لابن طفيل الذي ألهم أعمالا رئيسة في الأدب الأوروبي أهمها : “روبنسون كروزو” لدانييل ديفو Daniel Defoe،ويمكن أن نملك فكرة صغيرة كما يمكن أن تتضمنه أطروحته من خلال رواية فلسفية من المحتمل أن تكون الأولى من نوعها التي تم تحريرها في “الغرب” على حد قول دو ليبرا وهي “رسالة حي بن يقظان”،وهي قصة رضيع ألقي به في تابوت بنهر حتى جره التيار إلى جزيرة غير مأهولة بالسكان. وقد أصبح الرضيع فيما بعد فيلسوفا فقط بفعل ملاحظة ظواهر الطبيعة وبفضل اعتماده على عقله الطبيعي الحر،فأعاد وحده فقط بناء العلم البشري كله. وفي الجزء الثاني من الرسالة يأتي شخص إلى هذه الجزيرة ويرافق حي بن يقظان إلى جزيرة مأهولة، وهنا بدأ كل شيء يسوء. فهي جزيرة يسكنها مسلمون وتحكمها سلطة سياسية ودينية قوية. فكانت الخلاصة كما يقول دو ليبرا فولتيرية: “كي نكون سعداء، لنعش مختبئين”. ولذلك يرجع ابن ويقظان ومرافقه إلى جزيرتهما لإعادة بناء مجتمع مصغر بعيد عن التعصب الديني وعن اللاتسامح، ولم يكن الأمر يتعلق سوى بإنقاذ حياتيهما. لقد انشغل ابن رشد بالحكمة والشريعة مركزا على تحديد شروط استقلال البحث الفلسفي مقيما تصوره على نظرية وحدة الحقيقة، فلا وجود لحقيقتين متضادتين متعارضتين هما الحقيقة الفلسفية والحقيقة الدينية، “فالحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له”، فإذا كانت الحقيقة واحدة فإن طرق بلوغها متعددة،وباختصار،ثمة ثلاثة طرق، اثنتان تقودان نحو الحقيقة، والثالثة تسعى إلى ذلن لكنها تنأى عن هدفها. فالطريق الذي يقود عامة الناس إلى الحقيقة هو الوحي، والسبيل الخاص بقلة من بينهم فقط هو الفلسفة. وهناك شبه طريق إلى هذه الحقيقة وهو الذي يتبعه المتكلمون، أي علماء الكلام. إن مشروع ابن رشد طبقا لما هو معروض في الكثير من كتبه هو إظهار كيف أن هذين الطريقين للحقيقة كلاهما ضروري للانسانية، وأن بإمكانهما أن يتعايشا في تناغم، شريطة محاكمة الطريق الثالث للحيلولة دون سيطرة الفقهاء المتزمتين على العامة وتعبئة الناس ضد الفلاسفة بحجة مروقهم وزندقتهم. لكن مع هذا كله ليس من المناسب اعتبار ابرشد حداثيا أو تنوريريا قبل الحداثة والأنوار، لأن عصر الأنوار هذا لا يمكن أن يعد مثاليا بالقياس إلى أي عصر آخر، سابق أم لاحق عنه. في هذا الإطار حرر هردر”فلسفة أخرى للتاريخ من أجل المساهمة في تربية الإنسانية “Une autre philosophie de l'histoire pour contribuer à l'éducation de l'humanité ، وهو عمل هام يمكن اعتباره كواحد من المصادر الكلاسية للتاريخانية، وفي هذا العمل عارض هردر اعتقاد فلاسفة الأنوار مثل فولتير واسحاق إيزولان Isaac Iselin في تفوق عصرهم “المتنور “على كل العصور الأخرى للتاريخ .وقد وضع هردر النقط على الحروف حول المساواة في قيمة العصور الماضية، وبشكل خاص العصر الوسيط، مشيرا إلى أن لكل عصر وكل أمة فردية خاصة، يجب أن يكون الحكم عليها بحسب المعايير الخاصة بذلك العصر وبتلك الأمة. في قضية المرأة ومساواتها بالرجل: قال ابن رشد في كتاب جوامع سياسة أفلاطون، وهو من كُتُبه المفقود أصلها العربي، وَصَلَنا عنه تلخيصٌ للمفكر الفرنسي إرنست رينان (1823-1892) في كتابه ابن رشد والرشدية. ورأي ابن رشد في المرأة هو رأي المعاصرين من غلاة أنصارها، نقتبسه بنصِّه كما أورده رينان مترجَمًا من اللاتينية إلى الفرنسية: “تختلف النساء عن الرجال في الدرجة، لا في الطبع. وهي أهل لفعل جميع ما يفعل الرجال من حرب وفلسفة ونحوهما، ولكن على درجة دون درجتهم، ويفقنهم في بعض الأحيان، كما في الموسيقى، وذلك مع أن كمال هذه الصناعة هو التلحين من رجل والغناء من امرأة. ويدل مثال بعض أمصار إفريقية على استعدادهن الشديد للحرب؛ وليس من الممتنع وصولُهن إلى الحكم في الجمهورية [يشير إلى “جمهورية” أفلاطون]. أوَلا يُرى أن إناث الكلاب تحرس القطيع كما تحرسه الذكور؟”. وإذن فالفروق بين الجنسين ليس مردها هو الطبيعة، بل هي ناتجة فقط عن أسباب اجتماعية تاريخية.ويبدو ابن رشد أكثر معاصرة بما يجعله في هذا التصور متجاوزا للأنوار نفسها. ذلك أن تصور ابن رشد حول أسباب تلك الفروق يتطابق مثلا مع أطروحة أورزولا شوي عن هذا الموضوع. وضرورة المساواة بين الجنسين في كل شيء، ما دامت النساء شقائق الرجال في الأحكام والمعاملات هي شرط لكل تنمية اقتصادية واجتماعية. ألم يكن الفقر في الأندلس نتاج اقتصار النساء على الوظيفة النباتية؟أستسمح العالم السوسيولوجي عبد الصمد الديالمي باستعارة سؤاله عن ابن عرضون وتعميمه على ابن رشد،من يقول قولا أفضل من هذا القول اليوم ؟.