إن من مفارقات هذا الانتقاء أنه يشمل مراجع البحث أيضا. لم يعب عبده على خصمه أنه يستند إلى الاستشراق، فقد استمد هو أيضا أهم عناصر استدلاله من مصدر أجنبي هو "التنازع بين العلم والدين" للأمريكي درابر. لكن نية الدفاع عن التراث اقتضت عند عبده إسكات التراث، فقد كان حضور النصوص العربية متواضعا في كلام المفتي مقارنة بالاستشهاد بالكتاب الغربيّين. كان عبده يعاند التراث باسم التراث، لذاك سكت على المعروف المشهور من نصوصه، عن منشور المنصور مثلا الذي يدين ابن رشد بحجة تعاطي الفلسفة، عن موقف الفقهاء في الأندلس الذين كفروا الفلاسفة ومنعوا الاشتغال بالفلسفة، عن حرق الكتب وخاصة في الأندلس، الخ. بل سكت عبده على رواية ابن رشد نفسه لتقديم ابن طفيل إياه لدى الأمير يوسف، إذ فزع من سؤال الأمير عن قضية فلسفية وسارع يرفع الاتهام عن نفسه وينفي أن يكون من المشتغلين بالفلسفة. كما سكت على شهادات أندلسية عديدة تؤكد أن الفلسفة والتنجيم كانا يتعرضان لتضييق خانق في الأندلس وأن الأمراء أنفسهم إذا هووا الاشتغال بشيء من ذلك مارسوه تقية كي لا يفتضح أمرهم عند العامة. إنّ رفض عبده التفكير في العلاقة بين الاستبداد وتوظيف الدين لشرعنته هو رفض يعاند معطيات التراث الذي كان يسعى للدفاع عنه وقد جعله هذا الدفاع يسكت صوته. كان عبده يواصل آليات التأويل القديم التي تمكّن من صياغة تمثّلات الحاضر والمستقبل وشرعنة هذه الصياغات بالتصرف الحر في التراث، ولو بالحذف. وكان ذلك ممكنا في القديم عندما كانت نصوص التراث من احتكار شريحة محدودة تتصرف فيها كما تشاء. لكن آليات التأويل القديم تعطلت يوم اتسع مجال عمل الفيلولوجيا إلى التراث الإسلامي، فأصبح متاحا للجميع الاستدلال من التراث نفسه والرجوع مثلا إلى هذه الفقرة في وصف الأندلس من شاهد على العصر: "كل العلوم كان لها عندهم حظ واعتناء إلا الفلسفة والتنجيم فإن لهما حظا عظيما عند خواصهم ولا يتظاهرون بها خوف العامة. فإنه كلما قيل فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم أطلقت عليه العامة اسم زنديق وقيدت عليه أنفاسه، فإن زل في شبهة رجموه بالحجارة أو أحرقوه قبل أن يصل أمره للسلطان أو يقتله السلطان تقربا للعامة. وكثيرا ما يأمر ملوكهم بإحراق هذه الكتب إن وجدت". إنّ رهان المجادلة كان يدفع إلى تبرير الوسيلة بالغاية. فوجهة نظر أنطون هي بدورها إسكات لصوت عبده، أي تحويل للقضية عن مدار اختصاصاته ومؤهلاته. يقول أنطون إن كتب ابن رشد الفلسفية غير متوفرة بالعربية ولم تنشر سالمة صحيحة إلا باللاتينية، فلا يكون مختصا في ابن رشد إلا من أتقن هذه اللغة أو أخذ عمن يتقنها، ويعيّن تحديدا "الفيلسوف رينان المشهور الذي يعرف الأستاذ (= عبده) إنصافه ونزاهته وبراءته من وصمة التعصب فضلا عن معرفته اللغة اليونانية لغة أرسطو واللغة اللاتينية التي ترجمت إليها كتب ابن رشد ثاني مرة" (ابن رشد وفلسفته، ص 205). إدعاءان غريبان، أولهما اتخاذ كتاب رينان حجة على فكر ابن رشد، مع أنه أطروحة في الرشدية اللاتينية، أي الصيغة التي تقبّلت بها أوروبا اللاتينية ابن رشد. ثانيهما وصف رينان بالإنصاف وهو صاحب النظرية المشهورة للعجز الهيكلي للأعراق السامية عن إنتاج الفلسفة والعلوم. ربما لم يكن عبده قادرا على التفطن إلى المسألة الأولى لأنه لم يكن مطلعا على كتاب رينان، أما الثانية فهي في متناوله وقد خطرت بذهنه لا شك. لو كان عبده شيخا من عهد ما قبل الإصلاح أو زعيما من زعماء العصر الأصولي لاكتفى في الرد بالطعن في رينان والاستشراق. لكنه مضى في سبيل أخرى، فاقتبس من رينان نفسه ما ينتزع به رينان عن فرح أنطون. اقتبس من رينان قوله إنه تعرّف على رجال مسلمين ميّالين إلى التسامح يحاربون تعصب الفقهاء فيأمل أن يعمل هؤلاء على تحويل الإسلام إلى دين متسامح. كما اقتبس منه اعترافه أن غاية التمدن ليست القضاء على الأديان لكن على الأديان أن تسالم وتلين وإلا كان موتها ضربة لازب، وهو الانطباع الذي سجله رينان عن لقائه الأفغاني في باريس بعد مجادلة 1883. كما أن تراجع رينان عن معارضته القوية بين المدنية والدين هو معطى حقيقي. فكتاب "ابن رشد والرشدية" صدر بعد أربع سنوات فقط من تحرير "مستقبل العلم" الذي لم ينشر إلا بعد نصف قرن من كتابتهوصدر مسبوقا بمقدمة نقدية بقلم المؤلف نفسه يراجع فيها أفكاره الأولى ويتأسف لإفراطه السابق في الإيمان بالعلم وقابليته أن يحلّ كل المشاكل البشرية. والأهم أنه يعترف بأنّ تعصبه للعلم كان تحويلا لشعوره الديني السابق، إذ بدأ رينان شبابه كاثوليكيا متشددا قبل أن يتغلب عليه الشك والتمرد، فصوّر العلم ديانة جديدة تحلّ محلّ إيمانه المفقود. يقول رينان في مراجعة أفكار شبابه إنه لم يخطئ في اعتقاده أن العلم محور المعرفة الحديثة لكنه أخطأ عندما تصوّر العلم ديانة عامة واحدة على البشر جميعا الخضوع لها. فتوحيد البشر جميعا حول عقيدة واحدة هو مشروع للتعصب، أيا كانت هذه العقيدة. لقد جاء أنطون يعكّر على عبده صفو اطمئنانه، بل نخوة ما كان يعدّه انتصارا. اعتبر عبده أن رينان قد تراجع عن موقفه المعلن في المحاضرة التي ألقاها سنة 1883، فهل يريد أنطون العودة إلى نقطة البداية وكأن الحركة الإصلاحية لم تغيّر شيئا من 1883 إلى 1903؟ لئن عجز عبده عن طرح قضية العلمانية خارج الإطار التقليدي للمنازعة الدينية بين الإسلام والنصرانية فإنه لم يقتنع بأن الدافع الديني كان غائبا تماما عن أنطون الذي سبقه بالسؤال أيّ الدينين أكثر تسامحا وأقل تعصبا المسيحية أم الإسلام؟ أورد أنطون السؤال على سبيل الاستطراد بينما جعله عبده محور الرد متوقفا عند غياب التوازن في عرض القضية. ولعل لبّ القضية شعور عبده أن أنطون لم يجعل العلمانية ابتكارا من ابتكارات الحداثة بل جعلها قيمة مسيحية عاد إليها العالم الحديث، فقد كتب أنطون: "إن السلطة المدنية في الإسلام مقرونة بالسلطة الدينية بحكم الشرع، لأن الحاكم العام هو حاكم وخليفة معا. وبناء على ذلك فإن التسامح يكون في هذه الطريقة أصعب منه في الطريقة المسيحية فإن الديانة المسيحية قد فصلت بين السلطتين فصلا بديعا مهّد للعالم سبيل الحضارة الحقيقية والتمدن الحقيقي، وذلك بكلمة واحدة وهي أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" (ابن رشد وفلسفته، ص 226). لقد قام الخطاب الإصلاحي على ثلاث مصادرات. أوّلا، الاعتراف بتخلف المجتمعات الإسلامية مع تفسير ذلك التخلف بأنه انحطاط عن عهد ذهبي. فجاء رينان سنة 1883 يقول إنه لا يوجد أصلا عصر ذهبي لأن ما يدعى بالحضارة العربية هي مجرد نقل عن حضارات أخرى. ثانيا، الاعتراف بضرورة الاقتباس من الحضارة الجديدة (الأوروبية) مع تنزيل ذلك الاقتباس ضمن آليات التأويل الإدماجي. فجاء أنطون سنة 1903 يلخص أطروحة رينان ويتحدث من موقع الفيلولوجيا التي هي نقيض التأويل الإدماجي القائم على مبدأ النص المفتوح والتأويل اللامتناهي. ثالثا، الاعتراف بتفوّق النظام السياسي الغربي مع تقديم ذلك النظام الليبرالي على أنه ذروة مسار البشر في مسالك المدنية ومرحلة عليا جاءت تراكما لمساهمات العديد من المجموعات العرقية والثقافية، ومنها العرق العربي والثقافة الإسلامية. فقبول الإسلام نظام الحرية الحديث يحصل من موقع مساهمته التاريخية المفترضة في عملية تشييده والتهيئة له، إن لم يكن، في دعوى الأفغاني وعبده، هو السابق باقتراحه. فجاء أنطون سنة 1903 يقول إن تفوّق النظام السياسي الغربي مصدره العلمانية التي تصدر بدورها عن آية في الإنجيل، ما يعني في ذهن المتقبل المسلم أنه يجعل المسيحية مصدر العلمانية، وهذا ما عمل المصلحون على تفاديه كي لا يختلط اقتباس المدنية بالتشبه بالأديان الأخرى.