افتتحت الدورة الثالثة عشرة من مهرجان ليلة الأروقة بالعرائش التي تنظمها وزارة الثقافة والاتصال بتنسيق مع جمعية الفضاء التشكيلي وبلدية العرائش تحت شعار “التنوع والتناغم” وذلك بالمركز السوسيو ثقافي ليكسوس من 3 إلى 9 دجنبر 2018 بمشاركة كل من الفنان الأمين الغاشم – عبد القادر النحال – يوسف المرابط – عبد الفتاح خيبر – العمراني اقريعش- عبد اللطيف بلعزيز، وقد استرعى انتباهي هذه السنة المشاركة الخاصة للفنان عبد اللطيف بلعزيز الذي خص المعرض بعدة لوحات تيمتها متخصصة جدا حيث تشاركت كل لوحاته في موضوع استعراض الوجه والوجه فقط، بعد أن شارك في الدورة 13 من نفس النشاط بلوحاته التشكيلية التي تجعل من الجسد الإنساني موضوع أعماله، لكن لا كجسد مترفه بل الجسد في تلك المنطقة الحالكة من الاستهلاك الذاتي وقد خصصت لهذا الجانب من أعمال عبد اللطيف بلعزيز عدة ملاحظات ضمنتها في الحوار المنشور بجريدة الاتحاد الاشتراكي بتاريخ 07 – 03 – 2018. لكن تبقى هذه اللوحات منفلتة من كل الفرضيات التي قد نطرحها لتفسير التغيرات الحاصلة في مضموناتها وكل ما يمكن ان نتقدم به في هذا المجال لن يضيف شيئا الى فهمنا لطابع هذه الملامح القاسية و المباغثة التي تطغى على لوحاته. ذ. عزيز قنجاع الإطار الخاص بلوحاته هذه المرة ضيق و ضيق جدا، ضيْق الإطار هذا مباغث لا بسبب الحجم الصغير للوحاته بل بسبب التركيز القاسي في تسييج الوجه وملامحه ومحاصرتها كانه يستنطقها بحضورك إذ حالما تنظر إلى لوحاته فإنه يمسك بك يسرقك منك ويجبرك على الدخول إلى لوحته ويخصص لك وقتا كافيا للإلزام المنهك ويتيحك مكانا مميزا وإجبارا للنظر إلى موضوعه مباشرة دون تردد. الإجبار قائم من خلال الاستدراجات التي يقدمها الضوء في أعماله هاته، فجميع اللوحات المعروضة يدخل النور اليها دائما من زاوية واقعة على حافة الوجه فيضيئ الجوانب المماثلة من نصف الوجه البارز وينكسر متدرجا في اتجاه الجانب الاخر من الوجه، لا يحيلنا بلعزيز الى مصدر الضوء، فالانعكاس مرئي لكن لا نتبين مصدره وكانه واقع خارج الإطار. وجوه عبد اللطيف بلعزيز المعروضة تبدو كأنها قطع من حيز ملتبس تتمفصل بين شقين متمفصلين من خلال الضوء المسلط على جانب منه والمتدحرج متدرجا سلسا من مواقع الرؤية البسيطة الى مدارج متهالكة من التفاصيل الصادمة المتتالية حثيثا مع تكسر الضوء وافوله نحو الحلكة و الظلام .لا تحيل الملامح في “وجوه” إلى دعامة شفافة، فالوجوه تحضر بملامحها ولكن لا يمكن معالجتها فنيا الا باعتبارها ذاتا بين موضوعات أو أشياء، لأن الفنان يعالجها بامتعاض فهي بالنسبة له موضوعا وليست امتدادا لكائن حي اسمه الانسان بل نسيجا مشدودا الى متعارضة جوهرية يلعب الضوء فيها دور الفيصل. يبدو الحقل الضوئي ينير مباشرة بنية التفاصيل الجانية للنصف الموازي لملامح طبيعية مقابلة من الجهة الاخرى للوجه، فالمقابلة هنا بين الجزئين الذين ينتصب خط الانف المبعوج دائما فاصلا حادا بينهما حيث تبدو الجهة التي يحفها الضوء، رخوة مرنة مشبعة ومنفتحة، والجهة الغائرة في الظلام حتما مظلمة مشدودة في حلكة اللون فيحضر الوجه من الجهة الأخرى صلبا مظلما وكثيفا ومغلقا بل منغلقا على نفسه وتاتي ملامحه متشظية حادة وقاسية. لقد كان النور دائما بالنسبة للنظرة الانسانية عنصرا إيجابيا بل مثاليا يحيل إلى كل ما هو جميل، عكس الظلمة التي ارتبطت بالشر، لكن النور عند بلعزيز في لوحاته الخاصة بالوجه عامل سلبي بل انه وسيلة فجة وموغلة في التحريف والتعمية، فالإنارة حينما تسلط على الجانب المتقدم من الوجه فانها تخفي ملامحه الحقيقية وتمحوها محوا، حيث يبدو الوجه مسطحا عاديا محايدا بريئا ولا تبدا الملامح بالتشكل والتمظهر تدريجيا إلا عندما يخف الضوء وويبدأ في التلاشي والتبدد، فالضوء يغشى البصر والظلام يجلي البصر، لعبة غاية في التعقيد ، فبلعزيز يقيم أبدالا للرؤية، فالحيز الجلي الذي يحظى بالقدر الهائل من الانارة والضوء هو الخفي حقا لانه ساذج طبيعي وجد عادي، والجانب الخفي المظلم من الوجه في لوحاته هو الجانب الجلي ففيه تتكدس الملامح وتخرج واضحة منبعجة فيبدو الفنان هنا مسيطرا سيطرة تامة على عتبة هاتين الرؤيتين المتعارضتين. فرغم حضور هذه الجهة من الوجه بكل تفاصيل انكسارات الألوان المظلمة فهي لا تستمد من الضوء المسلط من الجهة المقابلة اية مائزية ورغم ذلك فالجهة الموغلة هذه في انحدار الضوء تبدو أكثر صلابة وأكثر تعبيرا فهي مبؤورة وكانها خارجة توا من تسطيح مرآة غير تامة الاستواء، فتبدو الصور عبرها مجوفة، وكان الجانب الظاهر من الوجه المحفوف بالضوء هو الملمح العام المشترك للنوع الانساني في حين ان الجوانب الداخلية والتي تطغى عليها الظلمة، الموغلة في العمق والتي تتمظهر في ظلام سحيق فاغر هي الجانب الحقيقية من الشخصية، يقلب بلعزيز معاني ظلت مسيطرة على الفهم الانساني منذ وجوده انها متقابلات الظاهر والباطن والجواني والبراني والعرضي والجوهري و النوراني والمظلم، إن ما لا يستطيع قوله الفكر يقوله بلعزيز في لوحاته باحالة اقرب الى صيغة الاختفائية العميقة لما يُرى، أو بلغة باردة يمكن القول أن وجوه بلعزيز محاطة ملمحيا بكل ما لا يمكن تفسيره بوضوح. في مقابل الأزواج أو المفاهيم المزدوجة التي تحيل الى طرائق وعلاقات مزاجية محكومة بالتوزع ..واقعي / خيالي .خير / شر ..عمل بلعزيز على الواحد المزدوج المعنى، قد يبدو هنا تاثرا مباشرا بفرويد بين ذات حاملة لظاهر ولا شعور أيضا، لكن إذا كان فرويد يعتبر الظاهر مدخل لقراءة الشخصية والتوغل في مناطق الظل، فإن بلعزيز يشير إلى أن الظاهر المضاء هو الكابح للمعنى وللشخصية وللمعرفة بها أيضا. هنا تسكن أفق المقابلة الفلسفية والفنية التشكيلية وتصمد في رج واضح للمسلم والاكيد والواضح ، هذا الرج للموازين والعلاقات والتواطئات القائمة هو ما يمكن في النهاية من إعادة تشكيل المقابلات القديمة للنسق الكلاسيكي للفكر والفهم والاستعارات. واقتراح تجاوزها أكيد أن العملية تقود إلى تخريب الأصل ويعني أنه ليس ثمة من أصل، أو الابتعاد عن مقام الأصلية حال تشكلها كاصل فيتم التمهيد لمسار تأتي الآثار المتتابعة لتعدله في اصليته، لكن هذا التجاوز وهذا الأفق لم ألتق به إلا في أفق الفن التشكيلي لدى بلعزيز عبد اللطيف.