واكبَ الارتفاع المطرد لأعداد المهاجرين المغاربة في البلدان المستقبلة، تزايدٌ في الكتابات الأدبية التي تطرّقت لقضايا الهجرة، وعالجت أموراً تُعنى بالحياة في بلد الإقامة. وسمّيت هذه الكتابة “أدب الهجرة“. ويعترض بعض الباحثين على تسمية “أدب الهجرة”؛ منهم الكاتبة والناشرة الإنكليزية سُوشيلا ناستا التي تهتم بالآداب الوافدة من جغرافيات ثقافية متنوعة. ترى سوشيلا ضرورةَ التخلّي عن هذه التسمية، وتعويضها ب”الأدب متنوّع الثقافات”، اعتباراً لتعريف كثير من المؤلّفين الذين ينشرون لديها، عن ذواتهم بصفتهم إنكليزاً ذوي تأثيرات ثقافية متنوعة الأصول، وليس بصفتهم مهاجرين، ولأنهم يكتبون بلغة بلد الإقامة. ما لم تنتبه إليه سوشيلا، مثلاً، هو وجود أدب باللغة العربية لمهاجرين مقيمين في أوروبا وغيرها؛ كسليم بركات، وطلعت شاهين، وعبد الإله الصالحي، وطه عدنان، ومحسن الرملي، وعبد الهادي سعدون، وباسم المرعبي، ومحمد الفتوح وآخرين. والمغربي حسين مجدوبي الذي نشر مؤخّراً مجموعة قصصية بعنوان “الوصية السابعة”، عن “دار سليكي إخوان” (2016)، في 124 صفحة، تضم سبع قصص. يُذكّر حسين مجدوبي قارئه بكُتّاب كثيرين اختاروا الإقامة خارج بلدهم، لكنّهم لم يقطعوا الصِّلة به، وبكُتّاب قدِموا إلى الأدب من الصحافة. ولعل ما يُسوّغ النظر إلى مجموعته “الوصية السابعة” بصفتها أدب هجرة مغربياً، إصرارُه في كتاباته على إبراز المغرب باعتباره بلده أيضاً. تؤكّد “الوصية السابعة” انتماءها صراحةً إلى أدب الهجرة؛ فقد صدرت عن تأمّل في تجربتها بمشاكلها وشخصياتها وأحوالها وفضاءاتها، لتُقدّم مثالاً عن العلاقة التي تصل التخييل بالواقع، من ناحية، ومن ناحية أخرى لتعكس معيشَ هويّة بالأساس. تكشف المجموعة عن خطابات الهيمنة والاضطهاد والعنصرية والاجتثاث وعدم التفهُّم، وما يطبعها من تعالٍ داخل إسبانيا، مع استحضار النّسق الثقافي المغربي بفجيعيَّته التي تضطرّ المواطن المغربيّ إلى مغادرته بحثاً عن الكرامة في الضفة الشمالية. لذلك كان التركيز على بناء خطاب دالّ يُفكّك تخييلياً النسق الثقافي الحاضن، الذي يفرض على المهاجر الإقامة في الهامش، ويصادر هويّته وحريته وقراراته، من جهة أولى، ومن جهة ثانية عمل على إدانة النسق الثقافيّ الأصل، الذي يطبعه حرمان المواطن في وطنه من أبسط حقوقه التي تضمن له كرامته. وتستأثر قضية “الهويَّة” باهتمام السَّردِ بصِفتها أزمةً، في “الوصية السابعة”، لأنّ لها موقعاً جوهرياً في سرد الهجرة. واتخذت “أزمة الهوية” صوراً متنوعة بتنويع القصص تخييلياً من حيث القضايا التي تُثيرها، لأنَّ لكل واحدةٍ منها حالاً بعينها، لا تتكرَّر بالضرورة في غيرها، ومع ذلك فهي تتجاور حكائياً، بل إن نواةً سرديّة بعينها تجمع فيما بينها، لعلّها هي الرغبة السردية التي لدى كل بطل في كل قصة في أن يتخلى عن صورته الماضية، وأن يصير ذا شكل جديد، وأن يستوعب واقعه بقيمه الجديدة، وليفهم السبيل إلى تحقيق الاندماج الكليّ في بلد الإقامة: “يريد أن يوحي للزائرين بأنه مندمج في المجتمع الإسباني، ومواظب على قراءة الثقافة الإسبانية” (ص، 84). وتُطرح إشكالية الاندماج ضداً على ما دأب عليه المغربيّ – العربي، من تَبَنٍّ لموقف من الغرب يطبعه التوتر، إن لم يكن الرفض والعداء، وهو ما يُعثر على تجلياته في شخصيات “الوصية السابعة”، وفي بحثها الدؤوب عن هويّة جديدة في نطاق حياة الهجرة، هوية تتجرد من الأحادية بوعي جديد يؤمن بالانفتاح على ثقافة الآخر، وبناء هوية جديدة في فضاء ثقافي جديد، تلتقي فيه الهويتان. وفي الوقت الذي تنتصر فيه المجموعة لبناء هوية جديدة للذات المهاجرة عبر الاندماج، تحتج على ممارسات يعرفها البلد الأصل وبلد الإقامة. هكذا يُدين السارد ممارسات في البلد الأصل تحرم المواطن من حقوقه البسيطة، كاحتجاجه على مظهر تعرفه “مدينتُه تطوان في شمال المغرب […] وتُعرف كذلك بالحمامة البيضاء، لكن الأوساخ زحفت على أزقتها وحتى على شارعها الرئيسي وحوّلتها إلى غراب أسود” (64)، مثلما يَدين الظلم الاجتماعي لسوء توزيع خيرات البلاد، ف”المغاربة يستهلكونه “السردين” بعدما لم يعودوا يحفظون أسماء “السمك الأبيض” الذي يذهب إلى أوروبا، القارة التي يعيش فيها الآن” (7). لكن مُعظَم الإدانات كانت في حق الوضع في إسبانيا، حيث لا يزال كثيرٌ من الإسبان يعاملون المغاربةَ مثل الغجر (10)، لأنهم يتخذون من المهاجر المغربي موقفَ الارتياب، لذلك يلجأ مصطفى إلى شغل يديه بفتح الجريدة لإبعاد أي تهمة عنه، لأنه يريد أن يكون المهاجر المثالي الذي يبعد عنه كل الشبهات (9)، مثلما فعل عند إمساكه المقبض بكلتا يديه لإبعاد التهمة عنه حين ازدحمت الحافلة وعجز عن فتح الجريدة. ولا يقتصر الارتياب على المهاجر البسيط، بل يمتد ليمس المهاجر المثقَّف أيضاً، فزهير تطارده “تهمة العميل والطابور الخامس التي تلصق بكل مهاجر” (83)، وهو ما قاده “إلى الابتعاد عن الأحزاب السياسية، شأنه شأن الكثير من المهاجرين المثقفين… إذا لم يكن المغربي إرهابياً فهو عميل” (83). ولعلَّ ما يُضاعف أزمة الهوية في “الوصية السابعة” هو أنها تضع شخصياتِها العديدة، التي أصولُها مغربية، القادمةَ من مجتمع تقليدي يُبجّل الماضي ورموزَه، والتي تَرى حاضِرَها ومستقبلَها مجرّدَ استئنافٍ لتجربة الأجيال السابقة، تَضَعُها في حالٍ تَضطرُّها باعتبارها “تابعة” لتعيش التّشظي، لأنها تواجه مستعمِرَها السَّابِقَ على أرضه بما يُمثِّله من حداثَةٍ وما يطبَعه من اعتقادٍ راسخ في التجديد والتجدُّد، ومن إيمان بالتحوُّل المستمر والسريع، وهو الوضع الذي يسوق هذه الشخصيات وهم ستة ذكور وامرأةٌ، إلى أن تعيش جميعُها مشاكلَ مختلفة؛ وإلى القَبُول بالمجتمع الإسباني موضوعاً للرغبة. وعلى الرغم من أنّ قصص المجموعة مسرودة بضمير الغائب، العالِم بكل شيء والحاضر في كل الأماكن والأحداث والمتميِّز بتخفيه، فاللافت فيها هو أخْذُ شخصياتِها بزمام السرد؛ ذلك أنّ تمثيلَها السردي للهجرة يتخطى وصف المعيش إلى إبراز وقع التجربة على المهاجر. هكذا يصير سرد “الهجرة اختفاء –حسب غويتيسولو- ثم عودة إلى الظهور. الهجرة عودة إلى الولادة لئلا يكون بعدها اختفاءٌ أبداً”، وتكون الكتابة أفضلَ صيغة لظهور المهاجر.