من الأمور التي راج الحديث بشأنها، وخاصة بعد افتتاح ما سمّي بالعهد الجديد وجود تيار حداثي يخترق المنظومة المخزنية ويسعى لإصلاحها .. فصار الحديث عن صراع الأجنحة داخلها ، بين المحافظين والحداثيين بصفة خاصة، وأنه يجب دعم الجناح الحداثي والانتصار له لتحقيق الديمقراطية وبناء دولة الحق والقانون، وصار الأمل في الإصلاح عبر هذا “التحالف” المفترض أن يكون بين حداثيي الخارج وحداثيي الداخل (خارج وداخل المخزن) يبدو ممكنا ومنطقيا .. ودون الذهاب إلى نهاية هذه الخلاصة لأنها لا تستقيم وطبيعة القوى الحاضرة في الساحة، ولا مع ما يفترض حدوثه كإصلاح، فإن لهذا الخطاب منطقا يمكن تصديقه أو اعتماده إن توفرت له بعض شروط المصداقية. فالصراع بين الأجنحة داخل المنظومة المخزنية يمكن فهمه واستساغته بمنطق الجدل ذاته، ما دام التناقض يخترق كل مكونات المجتمع والمؤسسات، وبالتالي أصبح من المعقول وجود قوى مناهضة للمخزن التقليدي المحافظ من داخل هذا المخزن نفسه . وهذا – ربما – ما جعل عددا من قوى التقدم واليسار تؤمن بمثل هذه الأطروحة وتتبناها وتقتنع بإمكانية الإصلاح (لا التغيير) عبر المؤسسات دون اعتماد على ضغط الشارع، وأخذت بعض قوى اليسار تدبج أدبياتها وتصريحاتها وفق هذا الطرح بدءاً ب من اعتبار العمل المؤسساتي ضرورة وضغط الشارع عمل مكمِّل له، وانتهاء بالتخلي كليا عن هذا الشارع الذي صار عبئا محرجا على كاهل بعض قيادات هاته القوى التي أحرجت وتحرج قواعدها قبل غيرها، عبر اختيار الفعل النخبوي بديلا عن العمل الجماهيري. وعندما نبحث عن مربط الفرس في هذا الطرح الذي أعمى بصر بعض مكونات اليسار أشخاصا وأحزابا كما أعمى بصيرتهم، نجده جاثما في هلامية هذا الوجود الحداثي في المحيط المخزني. فمن يمثل هذا التيار التحديثي داخل المخزن ؟ هل هو الأمير هشام الذي تحلق حوله عدد من اليساريين وبعض رموز المعارضة ؟ هل هم المقربون من الملك ومساعدوه كعالي الهمة والماجدي والعرائشي وكبار أطر الداخلية وأخنوش ؟ هل هي الأحزاب صنيعة المخزن بمختلف تلاوينها بدءا بالحركات الشعبية وانتهاء بالبام ، مرورا بالأحرار والدستوري وغيرها من الأحزاب ؟ فباستثناء حلقة الأمير هشام التي تبقى محزنية بملامح حداثية، فإن الباقي لا تنبعث منهم أدنى رائحة يمكنها أن توحي بوجود مسحة حداثة لديها .. قد تكون مظاهر حداثية تتجلى في نمط حياتهم واستهلاكهم الباذخ نتيجة استنفاعهم من ثروات البلاد والريع المنعم به عليهم، لكن الحداثة كأسلوب حكم وممارسة سياسية فما أبعدهم عنها .. لا ينبغي أن نغتر بالخطابات والمظاهر، ولا ينبغي أن نغير مواقفنا و”نقلب الفيستة” لمجرد وجود دعوة/دعاية نكون مستعدين دهنيا ونفسيا (وربما مصالحيا)، كقيادات، لاتباعها وتبنيها، ما دامت ستعفينا من تحمل تبعات النضال الجماهيري و”صداع الراس” اليساري ..