رشيد عنتيد* ينتقل النقاش الآن حول مأزق عشرين فبراير من المحادثات الخاصة التي كانت تمنعها المجاملات النضالية من التعبير عن نفسها، إلى الساحة العمومية بعدما أصبح الجميع يعترف به.
كنا من السباقين إلى التنبؤ بذهاب الحركة إلى الحائط رغم أنها كانت تحت تأثير الخدر الإعلامي الذي نفخ في جدوى التحالفات الهجينة، وجعلها ليست ذات أولوية مادام الهدف هو إسقاط النظام.
نرى الآن نفس الوجوه و التنظيمات تستعد لتبديل الجلد مرة أخرى و تتحدث عن إعادة تأسيس الحركة، تريد أن تهرب كما فعلت المرة الأولى عن تقديم الحساب و تحديد المسؤوليات عن تحجيم الحركة و تحريفها و تغيير وجهتها إلى الماضي عندما كانت تتجه الى المستقبل.
يتحدثون بالخطاب العاطفي المعهود عن اختراق الحركة، و هذا صحيح. لكن المخترقون ليسوا المناضلين الذي يتم إرهابهم و إقصاؤهم بإلصاق بطاقات الخيانة و التآمر والبلطجة، لكن الاختراق الحقيقي هو الذي قامت به جماعة العدل و الإحسان، التي استعملت التقية السياسية لتحصل على دعم يسار ميت لم يعد يؤمن حتى بنفسه للقيام بالزحف علينا..من اخترق الحركة حقيقة هو من اعتبر أننا أعضاء في جماعته و أننا جزء من غوغائييها الدينين الذين خرجوا إلى الشارع باسمنا مجانا.
في بيانها التأسيسي لحركة حرية و ديمقراطية الآن، الحركة الشوكة التي وقفت ولازالت تقف في الحلق.. نعتبر أن هذه الجماعة من إفرازات الأزمة و الفساد. ومن منطقنا الحداثي الليبرالي لا يمكن أن تكون الجماعة جزءا من الحل مادامت لم تؤد الثمن الحقيقي للالتحاق بنا، بتقديم مراجعاتها من داخل أدبياتها المرجعية و تقوم بالنقد الذاتي عن السبب الحقيقي الذي جعلها لم تساهم، من بعيد أو من قريب في الحياة السياسية منذ نشأتها، اللهم المطالبة بالنقل و المنحة في التنظيم الطلابي الحداثي الذي تم السطو عليه بنفس الطريقة التي تم السطو بها على حركة عشرين فبراير.
من آمنوا بالحركة، كتمفصل جوهري في التاريخ السياسي المغربي، كان عليهم أن يقوموا، بدل نقل عقم أحزابهم و تنظيماتهم إلينا، بنقل ديناميكيتها وهويتها الثورية إليهم من منطلق أننا اخترنا أن نعبر عن أنفسنا خارج مؤسساتهم و فكرهم كإدانة لهم بالأساس، وعلى ذلك يقومون بالاحتجاج داخل هذه الأحزاب و تثويرها، بالموازاة مع الاحتجاج الأساسي على الدولة و مطالبتها، بكل واقعية وحكمة و جرأة، القيام بالإصلاحات الحقيقية تحت الشعار الجامع المانع : حرية و ديمقراطية الآن.. لكنهم استغلوا نقطة ضعف المناضلين الرومانسيين القليلي الخبرة والحدس، و هم مكرهون تحت ضغط الموعد الذي حددناه، لكي يقوموا باحتواء الحركة بأذرعهم التنظيمية والسياسية والإعلامية، واتجهوا بها للشارع لتفتح لهم المنافذ للظهور و مبارزة الدولة و تصريف الأحقاد السياسية المترسخة من زمن الحسن الثاني.
إذا كنا نتحدث عن ضرورة تأسيس جديد، فهو العودة إلى حركة حرية و ديمقراطية الآن، و تكريس أولوية استقلالها الفعلي و ليس الصوري، و رفع يد الوصاية التي تسمى مجلس الدعم، هذا التأسيس يجب أن يقوم به الشباب المستقلون أنفسهم وعلى رأسهم المؤسسون الأوائل للحركة.. ودعوة الآخرين المتحزبين إلى العودة لمقراتهم للمطالبة بالديمقراطية الداخلية الجديدة، و عودة العدل و الإحسان إلى نفسها لتتمعن في ما يمكن أن تعطيها تجربة عشرين فبراير من دروس وعبر، بضرورة إحداث "القومة" داخلها إذا كانت تجد الحرج في الديمقراطية و الحداثة، التي هي شرط أساسي في هويتنا و دوافعنا والذي لا تراجع عنه بتاتا.
بعد أن نلنا النصيب من التهكم و الاتهام، يبدو لنا الآن كم كانت نظرتنا ثاقبة، عندما اخترنا التحلي بالواقعية السياسية والحكمة النضالية كي نجعل التغيير ممكنا في المغرب بأقل الخسائر، و بقليل من التمحيص يمكن للمتتبع أن يشاهد أن الخطاب الملكي و الدستور الجديد يجيب عن البيان التأسيسي لحركة حرية و ديمقراطية الآن، بينما كانت باقي الأرضيات، التي صيغت في المقرات فيما بعد، تراوح مكانها وهي تتوهم أنها غير معنية بالمستجدات لأنها تضن أن المسيرات الملتحية ستقوم بالإطاحة بالنظام الملكي ككل.
الآن قبل أن تتلونوا في ثوب إعادة التأسيس، قدموا لنا الحساب و قولوا لنا لماذا رفض الشعب أن يلتحق بكم؟ وهل كنتم تبحثون عن تحقيق المطالب للشعب أم تحقيق الخرافة لواضع المنهاج، الذي قال للغوغاء الدينيين في جماعته أن حركتنا ما هي إلا القومة التي وعدهم بها تأييدا من السماء؟
الآن على اليسار الذي كنا نحترم حداثته قبل عشرين فبراير، أن يقول لنا كيف يمكن للتغيير أن تقوم به تنظيمات نعتبرها جميعنا ظلامية، لا تمتلك مشروعا حقيقيا للحكم و لا يمكن أن تكون سوى وجها آخر للديكتاتورية و خنق الحريات؟. كيف يمكن للحرية و الديمقراطية، كشعار أصلي لعشرين فبراير، أن يتحقق بجماعة لازالت لحد الآن تتفاخر علينا و عليكم بلا حياء بالمنهاج النبوي تربية و تنظيما و زحفا؟
السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو : لماذا اختارت الحركة أن تبقى حبيسة الشارع، و باقي واجهات النضال الواقعي فارغة، يعيث فيها الفساد فسادا؟ هل عدمية الحركة المتتالية اتجاه المستجدات النوعية التي حدثت، و فرص اللقاء مع الدولة و الحوار الندي معها التي سنحت، هي عدمية الشباب المغربي الملكي الحر، أم هي عدمية الأطراف الوافدة على عشرين فبراير؟
إذا كان المنطق المتسرع بحث عن الجماهيرية على حساب إهمال الهوية المطلبية والإقتراحية منذ البداية، فكان أولى أن يتبع الواقعية الصحيحة التي استعملتها حرية و ديمقراطية الآن، بالتحالف مع الملكية ضد الفساد، باعتبار أن الملكية تتوفر على شعبية مطلقة عند الجماهير و يمكن مقتضى هذه الشعبية ضمان التحاق المغاربة بالاحتجاج و ضمان التحاق الملكية طوعا أو كرها بالمطالب الشعبية، والعزل التام للفساد حتى يسهل محاربته.
على خلاف جماعة العدل والإحسان التي ظلت تحوقل و تهلوس في عزلتها منذ سبعينات القرن الماضي، استطاع حزب العدالة والتنمية استعمال هذا الخطاب الواقعي الذكي، وبرهن على "براغماتية" خطيرة بدعمه المطلق للملكية مع ترك نافذة الإغاثة مفتوحة على الشارع عبر تيار "الرميد" ومن معه، و استطاع إحداث التأثير القوي في معقل الملكية عندما وقف ضد بنود "حرية المعتقد في الدستور"، بينما القوى الحداثية مشلولة عن الممانعة، يا حسرة، لأنها تحالفت مع قوى العدل والإحسان في الشارع.
حزب العدالة و التنمية يشكل الوجه الآخر لاستعمال الدين في السياسة، إلا أنه عرف كيف يحمي نفسه من القصف و ينتزع الاحترام بالالتصاق الدءوب بالثوابت الوطنية، الشيء الذي مكنه من التغلب على حملات الإقصاء التي كان يتعرض لها، وبذلك يعطينا دليلا آخر على فعالية الواقعية السياسية في النضال.
إذا كانت حركة حرية و ديمقراطية الآن زلزلت النظام السياسي بجرأتها و طبيعتها الوطنية، فقد زلزلت أيضا الأحزاب و التنظيمات باستقلاليتها و تحميلها نصيبها من المسؤولية عن الفساد و تردي الأوضاع، فكان التحاقها الشيطاني بالحركة هو انتقام في طبيعته، لأن هاته الأحزاب و التنظيمات لم تغفر لنا أننا سحبنا البساط من تحتها و هددنا قصورها النضالي، و كشفنا على عقمها و خوائها النضالي، مما جعل التحاقها المتأخر بالحركة نفهمه الآن على أنه جاء للجم الحركة حتى لا تتمادى في مطالبتها هي أيضا بالحرية و الديمقراطية الآن. *مؤسس حركة حرية و ديمقراطية الآن