المسيرة الخضراء، التي يخلد المغاربة، يوم سادس نونبر، بكل فخر واعتزاز، ذكراها الأربعين، حدث وطني مجيد يستنهض همم كل مغربي ومغربية لمواصلة السير قدما على درب الملاحم والصمود، سعيا إلى تثبيت الوحدة الترابية للمملكة، وإعلاء صروح المغرب الحديث وصيانة مكاسبه الوطنية. كما أنها لحظة قوية لاستحضار الأمجاد، التي طبعت هذه الملحمة التاريخية الخالدة، التي ستظل منقوشة بمداد من ذهب في رقيم الذاكرة الحية للمغرب، الذي يواصل مسيرته المباركة نحو مدارج التقدم والرخاء تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس.
هذه الذكرى هي كذلك مناسبة ووقفة للتأمل، توحي بواجب الاعتزاز بالوطن، والتشبع بالحسن الوطني في خدمته والدفاع عنه، والنهل من ينابيع الوطنية الحقة والمواطنة الإيجابية التي يطفح بها تاريخ المغرب التليد، الزاخر بالأمجاد والملاحم والبطولات، والذي جسد حدث المسيرة الخضراء الغراء إحدى حلقاتها الذهبية التي يعتز بها المغاربة ويفخرون بتراثها النضالي الخالد.
وكلما حلت ذكرى من ذكريات حدث المسيرة الخضراء المظفرة، مع توالي السنين، وإلا وتحيي في نفوس المغاربة ذكريات البطولة والشهامة والاعتزاز، وتبارك لهم مسيرتهم الدائمة في طريق التنمية والنماء، مستحضرين قول جلالة الملك، في إحدى خطبه السامية، "فلنستلهم من هذه الذكرى الخالدة روح الالتحام والعطاء المستمر من أجل مغرب تشكل فيه مختلف جهات المملكة فضاءات دينامية للتنمية المستديمة، وممارسة الديمقراطية المحلية، وإبراز الخصوصيات الثقافية وتحقيق الازدهار الاقتصادي والاجتماعي في ظل الوحدة والتضامن".
إن المغاربة وهم يخلدون هذه الذكرى المجيدة، التي تشكل محطة تاريخية ذات دلالات عميقة وإشارات دالة على حدث يؤرخ لصفحات مشرقة من النضال المغربي الذي خاضه السلف ويتممه الخلف في مسيرة تحقيق واستكمال الوحدة الترابية، يستحضرون ما تزخر به من قيم ومثل عليا ومعاني سامية تستلهم الناشئة والأجيال الجديدة من أقباسها في مسيرات الحاضر والمستقبل، إعلاء لصروح المغرب الجديد، وتعزيز مكانته المتألقة وأدواره الرائدة بين الأمم والشعوب.
كما أنهم يستحضرون قيم الروح الوطنية والمواطنة الصالحة التي تنطق بها بطولات وروائع الكفاح الوطني دفاعا عن المقدسات الدينية والثوابت الوطنية والمقومات التاريخية، واستلهام دروسها وعبرها لمواصلة مسيرات الحاضر والمستقبل التي يرعاها ويقودها جلالة الملك محمد السادس لبناء مغرب حداثي ديمقراطي متقدم ومتضامن ينعم فيه أهله بنعمة الأمن والاستقرار والطمأنينة والحياة الرغدة والكريمة من طنجة إلى الكويرة.
ولقد حققت المسيرة الخضراء غايتها، وأصاب سهمها الهدف الأسمى، واسترجع المغرب وحدة ترابه التاريخية المعهودة. ودخل العبور الأكبر من بابه الواسع، حيث وقف العالم إجلالا لهذه المسيرة التي أصبحت لتاريخ المغرب عنوانا، وكبر لهذا الشعب المغربي في انتفاضته الكبرى وثورته البيضاء، وملحمته الخالدة التي قال عنها مبدعها في إحدى ذكرياتها : "فلو لم تكن مسيرة الشعب والعرش مسيرة تاريخية حتى أصبحت جبلية عندنا لما تمكنا في القرن (الذي نحن فيه) من أن نقوم بثورة الملك والشعب".
وبالفعل جسدت المسيرة الخضراء، التي انطلقت في السادس من نونبر عام 1975، مدى عمق تشبث المغاربة، بكل فئاتهم وشرائحهم، بمغربية الصحراء وبالعرش العلوي المجيد، حيث سار، تلبية لنداء جلالة المغفور له الحسن الثاني، 350 ألف مغربي ومغربية مسلحين بقوة الإيمان ومؤمنين بقضيتهم العادلة، بنظام وانتظام، في اتجاه واحد صوب الأقاليم الصحراوية لتحريرها من براثن الاحتلال الإسباني. وأظهروا، بأسلوب حضاري سلمي فريد من نوعه، للعالم أجمع، قوة وصلابة موقف المغرب في استرجاع حقه المسلوب وإنهاء الوجود الاستعماري بأقاليمه الجنوبية لحوالي ثلاثة أرباع قرن من الاحتلال.
وفي هذا الصدد، قال جلالة الملك، في إحدى خطبه السامية بمناسبة المسيرة الخضراء (نونبر 2001) "في مثل هذا اليوم المجيد من سنة 1975 عاشت بلادنا الحدث التاريخي العظيم لانطلاق المسيرة الخضراء المظفرة التي جسدت الالتحام الدائم بين العرش والشعب. والتعبئة الوطنية الشاملة وراء والدنا المنعم جلالة لملك الحسن الثاني قدس الله روحه، الذي جعل منها في الواقع مسيرتين متكاملتين : مسيرة استكمال وحدة التراب الوطني التي كللت باسترجاعنا لأقاليمنا الصحراوية، ومسيرة استكمال البناء التنموي والديمقراطي" مؤكدا جلالته "وقد آلينا على نفسنا منذ اعتلينا عرش أسلافنا الميامين مواصلة استكمال وترسيخ ما حققه والدنا المنعم طيب الله ثراه من مكاسب وطنية ودولية في هاتين المسيرتين سائرين على نهجه القويم في اعتماد توطيد الديمقراطية واللامركزية والجهوية، والتمسك بفضائل الإجماع الوطني حول الوحدة الترابية والتضامن، لتدارك ما فوته الاستعمار على رعايانا الأوفياء في الصحراء من لحاق بركب التنمية الشاملة للمغرب الحر الموحد".
وخلال جميع مراحل المسيرة، تبين للعالم أجمع صمود المغاربة وإرادتهم الراسخة في استرجاع حقهم المسلوب وعبقريتهم في إنهاء الوجود الاستعماري بالالتحام والعزيمة والحكمة، حيث حققت المسيرة الخضراء أهدافها وحطمت الحدود المصطنعة بين أبناء الوطن الواحد، سلاحها الإيمان والتمسك بالفضيلة وبقيم السلم والسلام في استرداد الحق والدفاع عنه.
كما أظهرت هذه المسيرة، الفريدة من نوعها على مستوى العالم، مدى التلاحم الذي جسدته عبقرية ملك مجاهد وشهامة شعب أبي أبان لكل العالم أسمى تجليات الإخلاص للوطن وتصميم كافة المغاربة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب على استكمال الوحدة الترابية لبلادهم إلى أن عاد الحق إلى أصحابه وتحقق لقاء أبناء الوطن الواحد.
ويأتي تخليد ذكرى مسيرة الوحدة كذلك تجسيدا للمواقف الثابتة للمغرب في الدفاع عن مقدساته واستكمالا لوحدته الترابية، على الرغم من مناورات الأعداء ومحاولات الانفصال.
وقد عزز المغرب موقفه بطرحه المبادرة الحكيمة لمنح الأقاليم الجنوبية حكما ذاتيا في إطار السيادة المغربية، وهي المبادرة التي لقيت تجاوبا كبيرا ودعما دوليا متزايدا، ولقيت ترحيبا من لدن الأممالمتحدة التي وصفتها بالمبادرة "الجدية وذات المصداقية".
وذلك ما أكده جلالة الملك، في خطاب العرش لسنة 2014، بقوله السامي "كما نؤكد التزامنا بمبادرتنا بتخويل أقاليمنا الجنوبية حكما ذاتيا، وهي المبادرة التي أكد مجلس الأمن مرة أخرى، في قراره الأخير، جديتها ومصداقيتها".
وما فتئ جلالة الملك يجدد، في مختلف المحافل الدولية والوطنية، التأكيد على استعداد المغرب لمواصلة العمل، بكل صدق وعزيمة، مع الأممالمتحدة وجميع الأطراف المعنية، من أجل إيجاد حل سياسي تفاوضي ونهائي في نطاق الشرعية الدولية يضمن للمملكة المغربية سيادتها ووحدتها الوطنية والترابية، وهو ما يجسده بوضوح مقترح الحكم الذاتي والجهوية المتقدمة الذي لقي تقديرا وترحيبا كبيرين من لدن المجتمع الدولي.
وفي ذلك يقول جلالة الملك محمد السادس، في خطابه السامي بمناسبة الذكرى 16 لتربع جلالته على عرش أسلافه المنعمين، "وبخصوص قضية وحدتنا الترابية، فقد حددنا في خطابنا بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء، بطريقة واضحة وصريحة، مبادئ ومرجعيات التعامل مع ملف الصحراء المغربية، على الصعيدين الداخلي والدولي. وقد أبانت التطورات التي عرفتها هذه القضية، صواب موقفنا على المستوى الأممي، وصدق توجهاتنا على الصعيد الوطني، حيث سيتم، بعون الله وتوفيقه، الانطلاق في تطبيق الجهوية المتقدمة، والنموذج التنموي للأقاليم الجنوبية للمملكة. غير أن هذا لا يعني أننا طوينا هذا الملف. بل على الجميع مواصلة اليقظة والتعبئة، من أجل التصدي لمناورات الخصوم، ولأي انحراف قد يعرفه مسار التسوية الأممي".
ولقد كان لهذه المسيرة الوقع الجيد على الأقاليم الجنوبية بعد استرجاعها حيث أصبحت هذه الأقاليم مسرحا لأوراش التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والرياضية التي لم تعرفها تلك المناطق خلال الفترة الاستعمارية.
وبالفعل دخلت الأقاليم الجنوبية منذ تنظيم المسيرة الخضراء عهدا من الانجازات الهامة والنوعية ومن الدينامية في شتى المجالات والتي تعنى بالاهتمامات اليومية والتطلعات المستقبلية لساكنة هذه الأقاليم، حيث تحولت مدن الأقاليم الجنوبية إلى مراكز حضارية واقتصادية واعدة.
وتتواصل ملحمة صيانة الوحدة الترابية تحت القيادة الرشيدة لجلالة الملك بنفس الحماس، من خلال الالتزام الراسخ لكل شرائح الشعب المغربي، وانخراط أبناء الأقاليم الجنوبية في دينامية التقدم والتجدد الذي تعرفه المملكة.
وذلك ما أكده جلالة الملك بقوله، في إحدى خطبه السامية (نونبر 2001)، "إن المغرب المتشبث بوجوده على أرضه، الواثق بسيادته عليها، سيواصل مسيرة التنمية الشاملة لأقاليمه الصحراوية، معتمدا في ذلك أوسع معاني وممارسات الديمقراطية، وأعلى درجات الجهوية واللامركزية، وعدم التمركز، وأوثق روابط الوحدة، ومقومات السيادة الوطنية".
وفي السياق ذاته جدد جلالة الملك، في خطاب العرش لسنة 2014، تأكيد مواصلة مسيرة تنمية الأقاليم الصحراوية بقوله حفظه الله "غير أننا لن نرهن مستقبل المنطقة، بل سنواصل أوراش التنمية والتحديث بها، وخاصة من خلال المضي قدما في تفعيل النموذج التنموي لأقاليمنا الجنوبية، بما يقوم عليه من مقاربة تشاركية، وحكامة جيدة، ومن برامج متكاملة ومتعددة الأبعاد، كفيلة بتحقيق التنمية المندمجة".
كما يواصل باني المغرب الجديد حمل مشعل الدفاع عن وحدة التراب الوطني، موليا عنايته القصوى للأقاليم المسترجعة ورعايته الكريمة لأبنائها، تعزيزا لأواصر العروة الوثقى والتعبئة الوطنية لمواجهة كل مؤامرات خصوم الحق المشروع للمغرب في صحرائه، ومجسدا حكمة المغرب وتبصره وإرادته في صيانة وحدته الترابية المقدسة.
وبعد مسلسل استكمال الوحدة الترابية للمملكة، يستكمل جلالة الملك مسيرة البناء في جميع المجالات، ويؤكد جلالته عدم التفريط في أي شبر من تراب هذه المنطقة التي تشكل جزء لا يتجزأ من تراب المملكة، وهو ما أكد عليه جلالته في الخطاب السامي الذي ألقاه في زيارته التاريخية لمدينة العيون في مارس 2002 حيث قال "إن حفيد جلالة الملك المحرر محمد الخامس ووارث سره جلالة الملك الموحد الحسن الثاني قدس الله روحيهما والمؤتمن دستوريا على وحدة المغرب، ليعلن باسمه وباسم جميع المواطنين أن المغرب لن يتنازل عن شبر واحد من تراب صحرائه غير القابل للتصرف أو التقسيم".
وهكذا وبعد مرور 40 سنة على عودة هذه الأقاليم العزيزة إلى حضن الوطن الأم، بفضل المسيرة الخضراء المظفرة، يحق لسكان الأقاليم الجنوبية أن يفتخروا بمستوى التنمية الذي بلغته هذه الأقاليم الغالية، كما تعكس ذلك المشاريع السوسيو- اقتصادية الكبيرة التي تم إنجازها.
إن تخليد المغاربة لحدث المسيرة الخضراء هو موعد سنوي متجدد، ومحطة لإبراز التزام المغاربة بالدفاع عن قضاياهم الوطنية العادلة بعيدا عن منطق المواجهة والعنف والمكائد، كما أنه ليس فقط لحظة رمزية لاستعادة الذاكرة والتاريخ، بل هو دفعة معنوية لمواصلة مسيرة البناء والتشييد والنماء ومتطلبات التحديث والإصلاح، التي خطط لها صاحب الجلالة الملك محمد السادس.