اخترقنا عليها بيتها الطاهر الذي يواري كنزا حقيقيا من القيم ويخبأ معدنا نفيسا لم تزده المعاشرة للرجل الكريم رحمه الله وأعلى مقامه إلا نصاعة ورفعة. طيبة حنونة، لطيفة المعشر، كريمة الخصال، عالية الذوق، تلج بيتها فتستشعر جمالية المكان ونورانيته وكأنك في مسجد يذكر فيه اسم الله بلا انقطاع، تجيب تارة بوضوح وتتحفظ أخرى بحياء من يخلص الوجهة لله فيخشى أن يُطلع بما الله أعلم به منه، فكان معها هذا القطف الكريم. للا خديجة في البداية نرحب بك ضيفة عزيزة على موقع أخوات الآخرة. نود أن تعرفينا وقراءنا الكرام بشخصك الكريم وتحدثينا عن مسقط رأسك ونشأتك، كيف التحقت بالزاوية البوتشيشية، ومتى؟ وهل كان الأمر نتيجة بحث عن حاجة كنت تودين إشباعها؟
- بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. الشكر لله الكريم الذي جمعنا على ما نحن عليه. الأمَة الفقيرة إلى الله تعالى خديجة المالكي الشافعي السباعي، من قبيلة أولاد بن السبع المنحدرة من الساقية الحمراء، أجدادي نزحوا إلى بادية بنواحي مدينة شيشاوة منذ بضع قرون، وفيها كان مسقط رأسي حتى سن الخامسة، بعدها انتقلت للعيش مع العائلة في مدينة الرباط وتحديدا "المدينة القديمة"، وهناك درست في مدارس محمد الخامس، والتقيت في الفصل بصديقة صارت أختا لي لحد الآن وهي "للا عفيفة أرسلان"، هي من دلتني على سيدي الحاج العباس وشوقتني كثيرا لرؤيته وأخبرتني أنه لا بد لنا من صاحب نصحبه في طريقنا إلى الله عز وجل. كنت أذهب مع أختي عفيفة إلى جارة لها كان أخوها "سيدي إبراهيم الهلالي" "مقدما" في الطريقة، وكان يعطي الوِرد للملتحقين بطريقة سيدي العباس، كان رجلا مباركا يحدثنا عن الشيخ ويذكرنا دائما بالآخرة ويحثنا على ذكر الله وعلى طلب وجهه عز وجل، وهو من أعطانا الورد وهكذا التحقنا بالطريقة قبل أن نرى سيدي العباس وكنا في الخامسة عشر من عمرنا.
كيف كان اللقاء بسيدي عبد السلام رحمه الله؟ وكيف عشت التحول من التربية الصوفية بالزاوية البوتشيشية إلى التربية السنية على المنهاج النبوي مع سيدي عبد السلام رحمه الله؟
كان سيدي إبراهيم الهلالي يحكي لنا دائما عن سيدي عبد السلام ياسين أنه رجل فاضل وأن سيدي العباس رحمه الله يحبه كثيرا وينزل ضيفا عنده كلما أتى إلى الرباط. ازداد شوقنا لسيدي العباس رحمه الله حتى من الله علينا برؤيته في يوم من الأيام حين أخبرنا سيدي إبراهيم أنه أخذ لنا موعدا معه في منزل سيدي عبد السلام، ذهبت مع 'الفقيرات" لرؤية سيدي العباس رحمه الله، واستقبلنا بابتسامة وفرح وسرور، استشعرت فيه هيبة عظيمة ونورانية ظاهرة جلية. أثرت في رؤيته تأثيرا كبيرا وفي تلك الليلة رأيت في رؤيا أن سيدي العباس أعطاني خبزة كبيرة وقال لي هذه خبزتك. ولما رجعنا لزيارته مرة ثانية ابتسم في وجهي وقال رحمه الله: " واش شفتي شي رؤيا"، فقلت له نعم رأيت كذا وكذا، فتبسم وقال: "خير إن شاء الله". كان لقائي إذن مع "الفقيرات" في منزل "للا عفيفة" كل أسبوع، نذكر الله تعالى، وفي يوم من الأيام حضرت معنا أم سيدي عبد السلام "للا رقية رحمها الله" هذا اللقاء، وبعد ذلك جاءت رحمها الله إلى منزلنا لخطبتي وتمت موافقة الأهل.
للا خديجة حدثينا عن علاقة سيدي عبد السلام بالشيخ العباس رحمهما الله، في حياته وبعد مماته؟
- كان سيدي العباس يحب سيدي عبد السلام كثيرا، وكان يقدمه ليؤم الصلاة بالفقراء في حضرته. وفي أول زيارة لي للزاوية في مداغ جلست أنا والحاجة للا رقية مع سيدي العباس وقال لنا: "عبد السلام عزيز عليا قبالة قبالة" وهو ما يعني في لغة أهل وجدة أنه يحبه كثيرا كثيرا. وفي المقابل كان سيدي عبد السلام يتفانى في محبة وخدمة سيدي العباس، ويستغل كل عطلة لزيارته رغم بعد المسافة، وبعد وفاة سيدي العباس رحمه الله لم تفارق صورته مكتب سيدي عبد السلام، وكان دائم الدعاء له، دائم الاعتراف بفضله كلما نظر إلى الصورة أمامه.
للا خديجة، سيدي عبد السلام الزوج، ما الذي كان يميزه في نظرك؟ بعض المواقف، أو المشاهد التي بقيت عالقة بذهنك.
- كان سيدي عبد السلام إنسانا حنونا رحيما ودودا لطيف المعشر، يُذكر دائما بالموت واليوم الآخر، كان يذكر الله تعالى في كل أوقاته، وكان يملأ أجواء البيت عبقا بروحانيته الفذة. كان لا يخاف في الله لومة لائم. علق بذاكرتي مشهد وكأنه البارحة حين كتب سيدي عبد السلام "رسالة الإسلام أو الطوفان"، وكنا جالسين في البيت، فإذا بمجموعة من الشرطة يفوقون العشرة يقتحمون علينا البيت، فقام سيدي عبد السلام غير هياب ولا وجل وتوضأ وصلى ركعتين وقرأ القرآن بصوت مرتفع، فبدأ بعض "البوليس" يرتعشون، وهو جالس في سكينة وهدوء.
للا خديجة، وسيدي عبد السلام الأب ماذا يمكنك أن تقولي عنه؟ حدثيني عن تعامله معك في فترة الحمل، أثناء وضعك، رعايته للأبناء...
- كان أبا مثاليا، يفرح بالمولود أيما فرح، ويؤذن له ويحنكه ويطلب دائما رؤيته ويقول: "هذا حديث العهد بربه عز وجل"، يلاعب أبناءه وأحفاده، يحكي لهم قصص الأنبياء ويحببهم في الصلاة وفي حفظ القرآن دون أن يضغط عليهم أو يكرههم على ذلك، يعطي لكل واحد منهم لقبا جميلا يفرح به، ويسابق أبناءه وأحفاده فيسبقهم تارة ويسبقونه أخرى فيقول: "هذه بتلك". في حديقة المنزل كان يخصص لأبنائه وأحفاده كل يوم وقتا، فيخرجون معه ويلعبون ويمرحون ويترك صغارهم يزينون لحيته بورود الحديقة، وبعد ذلك يقرؤون على للا الحاجة رقية رحمها الله وعلى موتى المسلمين ما تيسر من القرآن الكريم – الفاتحة والإخلاص اثني عشر مرة والمعوذتين ثلاث مرات- يوميا، وبعد ذلك يختمون بنشيد جميل علمه إياهم: " للا فاطمة الزهراء جالسة في قبة خضراء شادة الحسن والحسين ولاد شفيع العباد، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، محمد رسول الله عليه سلام الله".
وكيف كان تعامله مع أفراد عائلتك الكريمة؟
- كان يفرح بعائلتي دائما ويسأل عنهم ويزورهم قبل الحصار ويفرح بقدومهم عندنا في البيت وعموما، كان رحمه الله تعالى، يفرح بكل الزوار.
للا خديجة، نعرف أن سيدي عبد السلام رحمه الله قضى عشر سنوات تحت الإقامة الجبرية كيف مرت هذه الأيام؟
- كانت أيام الحصار صعبة، إذ حتى أمي رحمها الله منعت من زيارتي، كما منعت نادية لفترة من دخول المنزل. وحرم الأبناء من حقهم الطبيعي في الخروج مع والدهم.
للا خديجة، برنامج سيدي عبد السلام رحمه الله اليومي، نومه، قيامه، طعامه، لباسه، الرياضة، التفكر... هل كنت تشاركينه في هذا البرنامج؟
فيما يخص برنامج سيدي عبد السلام فقد كان ينام بعد صلاة العشاء ويقوم ثلاث ساعات ونصف قبل صلاة الصبح ليقوم الليل ويذكر الله تعالى و يقرأ القرآن الكريم، وينام بعد الشروق ويستيقظ ساعتين قبل صلاة الظهر، يتوضأ ويصلي ثم يخرج للمشي على سطح المنزل أو في الحديقة حتى الثانية عشر ظهرا، يصلي بعدها ويتغذى، إن لم يكن صائما، وكان كثير الصيام، حيث صام العامين التي اعتقل فيها مجلس الإرشاد، وكان يصوم الاثنين والخميس والأيام البيض وشعبان وكل مواسم الخير، بعد الغذاء كان يقرأ كتبا متنوعة أو يكتب، وبعد صلاة العصر يستقبل الزوار ويخصص لنا وقتا في حديقة المنزل إلى صلاة المغرب، وحين يسمع الأذان يلبي نداء الله فورا، وبعد الصلاة قد يستقبل أبناءه في مكتبه أو ينزل إليهم حتى صلاة العشاء، والحمد لله كنا نصلي معه جميع الصلوات ما عدا التي يصليها مع زائريه من الإخوان.
للا خديجة، بيت داعية مجاهد.. هل كانت له خصوصية؟
- خصوصية بيت سيدي عبد السلام أنه بيت دعوة، بيت عامر بالمؤمنين، بيت عامر بذكر الله عز وجل.
إن الإمام رحمه الله وأعلى مقامه كتب أكثر من ثلاثين كتابا. فكيف عشتم هذه الفترات؟ وكم كانت تدوم؟ وكيف كانت أحواله فيها؟ وكيف كنت تهيئين له الأجواء المناسبة للكتابة؟ وهل كان يشاركك ما يكتب؟ صفي لنا شعوره وشعوركم بعد إنهاء الكتاب؟
- كان يكتب إما في النهار- إذا لم تكن لديه مواعيد مع الزوار- من الواحدة ظهرا إلى العصر، أو يكتب في الليل بعد القيام. وقد يجالسنا وإذا خطرت عليه فكرة يسارع إلى مكتبه ليكتبها، بل وقد يستيقظ من النوم ليكتب فكرة ثم يعود إلى النوم، وكانت مدة الكتابة تستغرق من ثلاثة أشهر إلى ستة حسب كل كتاب. و كان يلزمه الكثير من التركيز في الكتابة لذلك كنت أمنع الأبناء الصغار والأحفاد من الدخول عليه لكي لا يقطعوا حبل تفكيره. و كان يفرح عند الانتهاء من تأليف كتاب ويقول هذا مولود جديد يسره الله تعالى، نفع الله به الأمة الإسلامية والناس أجمعين.
ما هي الإضافة النوعية التي أضافتها صحبتك لسيدي عبد السلام لعقود من الزمن في درب سلوكك إلى الله؟
- طبعا صحبتي لسيدي عبد السلام أضافت لي أشياء كثيرة في درب سلوكي إلى الله عز وجل، فهو كان يوقظني لأقوم معه الليل ويوصيني كل يوم بقراءة القرآن الكريم وأن لا يفتر لساني عن ذكر الله عز وجل، ويذكرني بالآخرة في كل وقت وحين...