عادة ما يضطر أهل مريض باضطراب عقلي، حينما تنتابه نوبة هستيرية وما يرافقها من هيجان، إلى نقله نحو مستشفى للأمراض العقلية مخافة إيذاء نفسه وغيره بصفة لا إرادية. لكن المفاجأة غير السارة التي تواجه عددا منهم هي أن حالة المريض كثيرا ما تزيد ترديا. أحيانا يفاجأ ذوو بعض المرضى العقليين بعودتهم لوحدهم من المستشفى دون حتى أن يكملوا علاجهم. وزير الصحة الحسين الوردي نفسه سبق له أن اعترف بالأوضاع الكارثية التي تشهدها مستشفيات الأمراض العقلية بالمغرب. الوزير شبه تلك المؤسسات الصحية في ندوة صحفية بسجن «عكاشة». وأضاف أن العقلاء أنفسهم لن يخرجوا أصحاء إن قادتهم الأقدار إلى دخول هذه المستشفيات الشبيهة بالمعتقلات. تفاصيل أوفى تجدونها في التحقيق الآتي.
لا يجد مرضى انفصام الشخصية بدا من الانتقام من ذويهم إبان دخولهم في نوبات هيجان، كلما عادوا من مستشفى الأمراض العقلية، عبر تعنيفهم أو إلحاق أضرار مادية بممتلكاتهم، احتجاجا على تركهم بمكان يعتبرونه الجحيم بعينه. بحي «غوتيه» بالبيضاء، يقطن مريض بانفصام الشخصية، رفقة أسرته، في غرفة بسيطة بسطح عمارة. «مصطفى. د» هذا اسمه، كان في حالة طبيعية بعدما تناول أدويته. لكنه ما إن لمح صحافية «الأخبار» حتى تقدم نحوها حاملا ملفا يقول إنه يتضمن طلبات يعتزم إرسالها إلى قنصلية إيطاليا ليتمكن من العودة إليها بعدما قضى بها ما يناهز 25 سنة، قبل أن تسوء أحواله الصحية ويتم إرجاعه إلى المغرب. بعد تفاقم وضعه الصحي، اضطرت شقيقته وهي موظفة بمجلس مدينة الدارالبيضاء إلى نقله إلى مستشفى الأمراض العقلية بالمدينة ذاتها. المريض، الذي يبدو أنه ما زال يختزن في ذاكرته الكثير من الأحداث، يقول إنه كان يلاقي معاملة حسنة بالمراكز الاستشفائية المختصة بالأمراض العقلية والنفسية بإيطاليا، على عكس ما هو عليه الوضع هنا؛ إذ يستحم بالماء البارد ولا يلقى أي عناية طبية، حسب قوله، قبل أن يشير إلى أنه حتى الحقن قال إنها تعطى بطريقة عنيفة يزرورق معها جسمه. وزاد مصطفى موضحا، أن الطعام المقدم بالمستشفى المعني لا يقوى على أكله بالمرة بل ينتظر زيارة شقيقته التي تحضر له بعض الأطعمة. هذا المريض يقبع في الوقت الراهن بالمنزل ولا يتوقف عن التدخين بمعدل 3 علب من السجائر يوميا، وفق ما تحكيه شقيقته المعيلة الوحيدة لأسرة مكونة من 6 أفراد، والتي أضافت أنه تم رفضه بأحد مراكز النداء لمعاناته من مشاكل في الحنجرة يصعب معها سماع صوته بوضوح لإدمانه على التدخين. تكشف «مليكة. د»، الموظفة بمجلس المدينة وشقيقة المريض مصطفى، أنها كانت تلجأ إلى مساعدة زملائها بالعمل لإدخال شقيقها إلى المستشفى؛ إذ تنتابه نوبات انفعالية يصبح معها عدوانيا تجاههم وقد يهاجم حتى والدهم المسن البالغ من العمر 95 سنة. لكن شقيقة مصطفى تضيف أنه حالما تدخله يتم حقنه بمادة مهدئة ويطلب منها اصطحابه إلى البيت بحجة امتلاء المستشفى ولا يوجد سرير شاغر، علما أن حالته الصحية المتدهورة تتطلب بقاءه هنالك إلى غاية تحسنها. الموظفة بمجلس المدينة تقول إنها تضطر إلى دفع مبالغ مالية متفاوتة لأحد الممرضين (تتحفظ «الأخبار» عن ذكر اسمه الذي ورد على لسان سيدة أخرى) لتتمكن من إدخال شقيقها إلى المستشفى، مضيفة أن مما يزيد من معاناتها اضطرارها لاقتناء أدوية خاصة تؤدي إلى مضاعفات جانبية، فضلا عن أدائها لمبلغ 200 درهم عن كل يوم يقضيه شقيقها بالمستشفى. المريض، الذي عانى من هذا المرض لمدة 20 سنة، والمدمن على التدخين بشراهة، تقول شقيقته إنه يلتهم أيضا كميات كبيرة من الطعام ويشرب ما يزيد عن 6 لترات من المياه يوميا. مليكة أشارت إلى أن شقيقها المريض يحس بأنه سجين كلما وجد نفسه داخل المستشفى، وأنها تضطر إلى ذلك بسبب نوباته الهستيرية ومهاجمته لهم مخلفا إصابات بليغة. وأضافت أنها كثيرا ما كانت تستعين برجال الشرطة لنقله إلى المستشفى وأحيانا يقومون بربطه بحبال لشل حركته. مليكة تقول إن أدوية مرض انفصام الشخصية التي لا تكون متوفرة بالصيدليات لنفادها بسرعة تؤزم الوضع الصحي لشقيقها، مما تنتابه حالة خطيرة يحاول معها الإجهاز على كل شخص يجده أمامه أو حاول اعتراض طريقه. وتروي موظفة مجلس المدينة باكية أنها قامت بنشر شريط فيديو على موقع «يوتوب» تروي فيه مأساتها تحت عنوان: «موظفة بمجلس مدينة الدارالبيضاء تعاني التهميش والحكرة تجاه مستشفى الأمراض العقلية». لتجلية الحقيقة حول مزاعم عدد من المرضى وذويهم وللإجابة عن الاتهامات التي يوجهونها إلى الممرض المشار إليه زارت صحافية «الأخبار» مستشفى الأمراض العقلية والنفسية بالبيضاء يوم الجمعة الماضي، لأخذ تصريحات مسؤولي المستشفى حول مزاعم بأداء مبالغ مالية كرشاوى لتمكينهم من العلاج إلا أن إحدى الكاتبات بإدارة المستشفى دعتنا لانتظار البروفيسور (..). انتظرنا منذ الحادية عشرة صباحا، مثلما طلبت منا الكاتبة، لمدة ساعة من الزمن دون أن يأتي لمقابلتنا أو نتمكن من الوصول لأي معلومات بهذا الصدد. واجهنا الممرض المعني (الذي شدد على عدم ذكر اسمه) باتهامات حول تسلمه لمبالغ مالية من ذوي المرضى من أجل تسهيل علاجهم وولوجهم إلى المستشفى، لكنه نفى ذلك نفيا قاطعا، مشيرا إلى أن المستشفى فعلا ممتلئ وأن هذا هو سبب رفض المؤسسة الصحية استقبال مرضى جدد.
مستشفيات الجحيم تكاد لا تنتهي معاناة المرضى عقليا مع مستشفيات الأمراض العقلية لدرجة أصبحت فيها حياة ذويهم في خطر بالغ لاعتقادهم الراسخ أنهم يرغبون في التخلص منهم بالزج بهم في أماكن يعتبرونها سجونا. انتقلت «الأخبار» إلى قرية الجماعة بمنطقة سباتة بالبيضاء. هنا يقطن شاب مصاب بانفصام الشخصية يدعى «إ. د» تعرض هذا الأخير قبل عشر سنوات من الآن عندما كان يبلغ من العمر 16 سنة لاغتصاب شنيع من قبل تاجر مخدرات وأقراص مهلوسة يقطن بجوارهم. المعتدي طلب من الضحية (الذي تحكي والدته هذه الواقعة) جلب بعض الأغراض وإيصالها إلى منزله الذي يتاخم مقر سكناه إلا أنه هدده بالامتثال له مستخدما كلبه الأسود وسكينا من الحجم الكبير، فانصاع لأوامره واحتسى مشروبا بالغصب كان يضم مخدرا. بعد ذلك قام بهتك عرضه بعنف وعندما انتهى من إفراغ مكبوتاته ألبسه سروالا رياضيا وأعاده إلى منزله. «أ م» والدة الضحية تروي بحسرة كيف أدت حادثة الاغتصاب إلى إصابة ابنها بمرض انفصام الشخصية وذلك بتاريخ 21/11/2005. ومنذ ذلك الحين وابنها يتردد على مستشفى الأمراض العقلية بالبيضاء، زاعمة هي الأخرى أنها اضطرت لدفع مبلغ 500 درهم لممرض (هو نفسه المشار إليه سابقا) حتى تتمكن من إدخال ابنها كي تتفادى الجواب الاعتيادي التي تسمعه كلما لم تدفع القائل: «المستشفى ممتلئ عن آخره». وفي يوم من الأيام تفاجأت بابنها يعود إلى المنزل حاملا وثيقة تحمل إذنا بالسماح له بمغادرة المستشفى وهو لم يكمل علاجه بعد حيث عاد من مقر المستشفى بزنقة طارق ابن زياد إلى غاية حي سباتة راجلا، لكنه بعد عودته دخل في نوبة هستيرية فقام بإضرام النار في أثاث المنزل الذي لم يكن سوى غرفة بسيطة. وهاجم أخته الوحيدة متسببا لها في إصابات بليغة على مستوى الرأس نقلت على إثرها إلى المستعجلات لتلقي العلاج. والدته تقول إن سبب ذلك هو اعتراضه على نقله إلى مستشفى الأمراض العقلية الذي يسهم في تدهور حالته، إذ كان يصرخ قائلا: «ديتوني تماك بغيتو تفكو مني». وما زاد من تفاقم حالة الضحية هو علمه بهروب الجاني رغم أنه محكوم بالسجن غيابيا. وتحكي والدة الضحية كيف يردد ابنها عبارات بشكل يومي وهو يوجه لكمات لوسادة مفادها أنه اغتصب من قبل جار لهم تاجر المخدرات وبسببه فقد عقله ويود الانتقام منه، مضيفة أنه كلما نقل إلى المستشفى يطالب بالسجائر التي تحضرها له مرغمة لإدمانه عليها، شأنه شأن مرضى انفصام العقلية. أما عندما تنتابه نوبات هستيرية فيرفض موظفو مستشفى الأمراض العقلية استقباله، إذ يزودونها برقم هاتفي لسائق سيارة إسعاف يطالب بمبلغ 600 درهم لنقل المريض إلى المستشفى فيتم حقنه بمادة مهدئة ويطلبون منها إرجاعه إلى البيت تحت ذريعة اكتظاظ المستشفى. محدثتنا كشفت أن ابنها اختفى منذ ما يقارب 15 يوما ومازال البحث عنه جاريا لحدود كتابة هذه السطور.
خطورة بالغة تحكي والدة شاب بالغ من العمر 25 سنة، مصاب بمرض عقلي يدعى الاضطراب الوجداني ثنائي القطب (الهوس الاكتئابي)، المأساة التي تقاسيها كلما اصطحبت ابنها المريض إلى مستعجلات مستشفى الرازي للأمراض النفسية والعقلية بسلا، موضحة أن ظروف استقبال المرضى وذويهم جد مهينة، إذ يضطرون إلى الانتظار خارج قسم المستشفى إلى أن يحين دورهم مع ما يرافق ذلك من مخاطر على صحة المريض والمواطنين على حد سواء. وأكدت محدثتنا بأسف بالغ أن رجلا عجوزا قدم إلى قسم المستعجلات بالمستشفى ذاتها رفقة نجله المصاب هو الآخر باضطراب عقلي ليلوذ بالفرار بعدما اضطر ووالده للانتظار خارجا، حيث وقف والده المسن مشدوها غير قادر على تعقب خطى ولده. وتسوء الأوضاع ليلا بقسم المستعجلات بمستشفى الأمراض العقلية والنفسية، إذ تقول الأم المعنية إنها تعاني الأمرين كلما ألزمت بنقل ابنها المريض إلى عين المكان بيد أنها واجهت في إحدى المرات إثر تعرض ابنها لنوبة من الهوس سيلا من الأسئلة من قبل شخص يرتدي لباسا رياضيا قام بفتح بوابة قسم المستعجلات يطالبها بإحضاره صباحا قبل أن تشرع في الصراخ محتجة على منع استقبال ابنها لخطورة وضعه ليتم إدخالها وإياه بعد مرور ساعة من الانتظار خارجا بشرط أن تترك ابنتها التي رافقتها خارج قسم المستعجلات بدعوى مرافقة المريض من قبل شخص واحد فقط لأسباب مجهولة رغم أن الوقت كان متأخرا، تشدد المتحدثة نفسها بنبرة يغلب عليها الانفعال. وقد حلت «الأخبار» بقسم المستعجلات بمستشفى الرازي بسلا لتجد مجموعة من المرضى يصطفون خارجا مرفقين بمرضاهم ينتظرون أن يحين دورهم لولوجه، كما انتقلت الجريدة إلى إدارة المستشفى لمقابلة مدريها لاستفساره حول اضطرار ذوي المرضى المضطربين عقليا للانتظار خارج قسم المستعجلات وما يرافق ذلك من خطورة غير أن كاتبته أخبرتنا بكونه غير موجود. وأشار إلينا أحد الموظفين بالمستشفى أن إعطاء تصريحات لصحفيين تتطلب إذنا من وزارة الصحة. وقد شهد مستشفى الرازي بسلا، حادث وفاة نزيل على يد مختل عقليا بعين المكان بعد إصابته بانهيار عصبي عبر توجيهه ضربات قاتلة للضحية على مستوى عنقه، وذلك سنة 2011. وقتل ممرض يدعى «ع. ف» البالغ من العمر 54 عاما سنة 2008 على يد مريض حضر رفقة أسرته إلى قسم المستعجلات في حالة هيجان تام. أعضاء من المكتب النقابي أفادوا إبان وقوع الحادث بأن ظروف العمل بالمستشفى نفسه جد صعبة كون الضحية كان الممرض الوحيد المداوم بقسم المستعجلات الذي يستقبل حالات خطيرة يصعب ضبطها، كما عرف المستشفى حالات انتحار متعددة لمرضى في ظل غياب إمكانيات حقيقية لعلاج فعال. وقد سبق لمدير المستشفى أن صرح لإحدى المنابرالإعلامية بأن مقتل الممرض يرجع لخصاص يعانيه المستشفى من الناحية الأمنية.
تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان يعري واقع مستشفيات الأمراض العقلية بالمغرب كشف تقرير أولي صادر عن المجلس الوطني لحقوق الإنسان سنة 2012 تحت عنوان: «الصحة العقلية وحقوق الإنسان الحاجة الملحة لسياسة جديدة» عن الواقع المرالذي يرخي بظلاله على مستشفيات الأمراض العقلية بالمغرب. وقد خلص التقرير إلى الوضعية المزرية التي تشهدها مستشفيات الأمراض العقلية بالمملكة سواء من خلال هندستها وبناياتها وتجهيزاتها ومرافقها الصحية، وعدم مراعاة شروط المراقبة والسلامة وضعف أو غياب الصيانة وضعف الطاقة الإيوائية لهذه المؤسسات وعدم تكافؤ توزيعها الجغرافي والخصاص المهول في عدد الأطباء والممرضين والممرضات والافتقار إلى فئات مهنية مفيدة وضرورية في مجال الصحة العقلية وضعف جودة الخدمات الطبية وغير الطبية المقدمة في غالبية مؤسسات ومرافق الصحة العقلية، وغياب آليات المراقبة وعدم فاعليتها وعدم احترام المساطر، بالإضافة إلى تعرض المرضى العقليين للوصم والإقصاء وضعف التكفل الصحي بهم. وأورد التقرير ذاته أن القطاع العام يضم 172 طبيبا نفسانيا و740 ممرضا في الطب النفسي، فيما يشمل القطاع الخاص 131 طبيبا نفسانيا. 54 بالمائة منهم موزعون على محور الدارالبيضاء- الرباط. وأشار التقرير نفسه، إلى أن الاكتظاظ الكبير الذي تعرفه مستشفيات الأمراض العقلية وأن قبول المرضى ليس متيسرا في جميع الأحوال. زيادة على كون الأجيال الجديدة من الأدوية غير متوفرة وغالبا ما لا يتم احترام المعايير المتعلقة بحفظ الأدوية. أما الوجبات المقدمة إلى المرضى فتظل غير كافية على وجه العموم وغير متوازنة، ناهيك عن الاختلالات العديدة المسجلة في مجال النظافة التي تمس بحق المرضى في إيواء يحفظ كرامتهم علما أن جسور إعادة الإدماج شبه منعدمة، ما يحكم أحيانا على مسلسل العلاج بالفشل.