تابعت في نشرات الأخبار لصباح أمس الخميس اعتزام السلطات المصرية استدعاء السفير الجزائري في القاهرة للاحتجاج عما تعرض له الجمهور المصري من اعتداءات من قبل الجمهور الجزائري في الخرطوم بعد نهاية المباراة التي جمعت المنتخبين في المقابلة الفاصلة التي جرت بينهما يوم الأربعاء الماضي . ولئن كان هذا الموضوع يدخل في نطاق سيادة السلطات المصرية التي لها الحق في تقدير التدابير الديبلوماسية التي يجب أن تلجأ إليها في مواجهة تداعيات وأحداث تمس بمواطنيها سواء في الخرطوم أو الجزائر ، فإن انزعاجي كما هو انزعاج كثير من المواطنين العرب والمسلمين كان من درجة التهييج التي انخرط فيها إعلام البلدين ، ثم انجرار الساسة على أكبر مستوى إلى شفا مواجهة ديبلوماسية قد تزيد في صب الزيت على النار وتجعل العلاقة بين الشعبين مشحونة بمشاعر العداء إلى الأبد لا قدر الله ، بسبب هذا التهييج المتواصل الذي فاق نطاقه كل الحدود المعقولة ، وكأن الأمر يتعلق بحجز بطاقة إلى جنة النعيم ، وليس إلى كأس العالم الذي نحن متأكدون أنه لا الفريق الجزائري ولا الفريق المصري يملكان إمكانية تمثل الكرة العربية تمثيلا يوصل أحدهما إلى أدوار متقدمة مثل ما حصل في حالة المغرب نيجريا والكامرون في دورات سابقة . لقد أصبت بالرعب حين وجدتني أتابع بالصدفة برنامج " دائرة الضوء" مساء يوم الأربعاء على قناة النيل سبور عقب انتهاء المباراة ، حين بدأت تصل إلى الاستوديو مكالمات وأخبار عن تعرض الجمهور المصري لاعتداءات من قبل الجمهور الجزائري ، وأخبار عن محاصرة لبعض المصريين في بعض المدن الجزائرية . كان المذيع هائجا مهيجا بكل ما في الكلمة من معنى ، حتى إنه تحول إلى الضيف الرئيسي للبرنامج ونسي ضيفه نهائيا وصار هو الذي "يحلل" و"يعلق " ،بل تحول الأستوديو إلى قاعة عمليات أو ملحقة من ملحقات وزارتي الداخلية أو الحارجية المصرية و صار"يستنكر" ويتهم السفارة الجزائرية في مصر بالتقصير لأنها سكتت ولم تصدر أي تعليق على الأنباء التي روجتها بعض الصحف الجزائرية عن مقتل جزائريين نتيجة اعتداءات عقب مباراة القاهرة . والأكثر من ذلك أنه صار يستنكر كيف أن هاتف السيد السفير لا يرد وكيف حلا له أن ينام ملء جفنيه وعلى ( ودانو) في الوقت الذي يتعرض فيه المصريون لهذه الإهانات والاعتداءات ، وصار يطلب من الإدارة التقنية للبرنامج أن يربطوا له الاتصال الهاتفي بالسفير كي يضعه أمام مسؤولياته . ثم لما اتصل وقع الاتصال الجزائري قال : " أنا مش حارد عليه " قبل أن" يلعن الشيطان " ويتراجع عن غضبته . وقبل ذلك كان من حين لآخر يجري اتصالات مع عناصر من الوفد الرسمي أو من غيره بدأ يتبين بعدها تدريجيا أنه هناك تهويلا وتضخيما للاعتداءات أو محاولات الاعتداء التي من المرجح أن تكون قد حدثت في ضوء عملية التهييج الخطيرة التي تولى كبرها الإعلام في البلدين والانخراط السياسي للسلطات العليا في البلدين في هذه " المعركة " من خلال تسهيل عمليات نقل الجماهير ، ومن خلال استمرار التشنج بين المسؤولين عن الوفدين الرياضيين . كان المذيع من حين لآخر يربط أيضا الاتصال مع مسؤولين أمنيين سوادانيين الذين كانوا يؤكدون أن الوضع تحت السيطرة وأن الخرطوم قد تحولت إلى ثكنة عسكرية وكذا الطريق إلى المطار لتأمين سلامة الجمهور المصري ، في حين كان المذيع يواجهه في لغة متعجرفة متهما السلطات السودانية بالتقصير، دون أن ينسى في غمرة ذلك بأن يذكر بأن السلطات المصرية على أعلى مستوياتها، قد اتصلت بالسلطات السودانية كي تؤكد لها أنه في حالة عجزها عن توفير الأمن لرعاياها فإنها ستجد نفسها مضطرة للتدخل من ذلك . وخلال ذلك كانت تتواصل اتصالات القناة مع مسؤولين مصريين مثل وزير الإعلام أو مع مسؤولين في الوفد الرياضي المصري تؤكد وصول أغلبيتهم سالمة إلى المطار ، وأن السلطات الأمنية السودانية تتخذ كل الإجراءات لتأمين من تبقى منهم عالقا في بعض الفنادق أو المناطق من الخرطوم إلى المطار. وأخيرا تأتى للقناة ربط الاتصال بالسفير الجزائري الذي أكد أنه على فراش المرض ، ويصرح أنه من خلال القناة يعيد التأكيد بأنه لم يسقط أي قتيل جزائري عقب مباراة القاهرة وأنه أصدر بيانا في الموضوع نشرته الصحف كما أنه أعطى بذلك تصريحات لعدد من القنوات الفضائية العربية والدولية ، وأنه فيما يتعلق بمحاصرة مصريين في الجزائر لا بد من تحريات في الموضوع وأنه وجب التثبت من الأخبار الواردة في الموضوع . فأسقط في يد المذيع وبدأ يتجلى للعيان حجم الانفعال والتسرع وانخراط المذيع في منزلق التهييج الأعمى ، وانحيازه الأعمى وهو الذي يفترض فيه مهما تكن درجة غيرته القومية وتعاطفه مع فريقه الوطني أن يترك بعض المسافة للعمل المهني ومنها التثبت والتحري والاستماع إلى وجهات النظر قبل إصدار الأحكام أو التعليقات أو الخطاب غير اللائق لبلد شقيق هو السودان بذل كل ما في وسعه لتوفير الأمن لجماهير البلدين . ودون شك فإن شيئا قريبا من ذلك حدث أو كان سيحدث في الإعلام الجزائري لو كانت الهزيمة نصيب فريقه والله أعلم كيف كان الجمهور الجزائري سيتصرف آنذاك في الخرطوم. يصاب المرء بالرعب وهو يتابع النتائج الملموسة لحالة التهييج هذه من خلال ما ينشر على المواقع الإلكترونية مثل الفايسبوك حيث توعد بعض الحمقى من الجمهور الجزائري المصريين بالذبح في الخرطوم ، انتقاما لما تعرض له الفريق الجزائري في مصر ، وحيث وصف بعض المصريين الحمقى الجزائر ببلد المليون بلطجي . كما يصاب بالرعب وهو يتابع مقابلة للمدرب الجزائري رابح سعدان مع القناة الرياضية لأبوظبي وهو يحكي بقدر غير يسير من الشوفينية عن وطنية الجزائريين وكيف أن المصريين يحملون في أنفسهم عن الجزائريين الذين لم يتساهلوا مع المصريين في إقصائيات 2002 حيث كانت النتيجة هي التعادل مما حرم المصريين من التأهل ومكن الجزائريون السنغال من التأهل ، وعن حالة الخوف التي كان يعيشها اللاعبون الجزائريون خلال إقامتهم بمصر وكيف ظلوا محاصرين في الملعب أربع ساعات بعد نهاية مباراة القاهرة وكيف أنهم لم يتنفسوا الصعداء إلا بعد أن حطت بهم الطائرة في مطار الخرطوم . من الطبيعي في ظل أجواء التهييج التي سبقت المباراة وتلتها أن تقع مثل هذه الانزلاقات ، وأن تتواصل في المستقبل. من الطبيعي أن يتصرف الغوغاء سواء من هذا الطرف أو ذاك بهذه الطريقة . لكن الشعب المصري ليس كله غوغاء ، والشعب الجزائري ليس كله بلطجية . من الطبيعي بالنظر إلى أن الشعوب العربية قد أصبحت تراكم الهزائم المتلاحقة أن تبحث عن انتصارات وهمية تنفس بها عن نفسها . ومن الطبيعي أن يستغل الحكام هذا الحمق الكروي ويذغدغون عواطف الشعوب المقهورة . من الطبيعي أن يقع ذلك لأن أغلب من أصبح يملأ المدرجات هو فئات واسعة من الشباب المعطل المحبط ، أو المنقطع عن الدراسة أو حتى من الشباب المتعلم الذي لم يعد اقتناعا إيديولوجيا أو حلما سياسيا ، ومن الذين لم يعودوا يجدون في القيادات الفكرية والسياسية مثلا عليا ، وكان من الممكن أن يضطلع الرياضيون بهذا الدور من خلال الأخلاق العالية والممارسة الرياضية النظيفة البعيدة عن العنف والخشونة وتعاطي المنشطات لولا أن رياضيينا إلا ما نذر منهم يفتقدون إلى المستوى العلمي والثقافي والتأطير الأخلاقي والتأهيل النفسي والسلوكي كي يتعاطوا مع موقع النجومية بما يفرضه من مسؤولية وطنية وأخلاقية . من الطبيعي أن يقع ما وقع بين الأشقاء المصريين والجزائريين ، وهو يقع اليوم بين الفرق في منافسات الدوريات الوطنية .لكن ما ليس مقبولا أن تنساق النخبة السياسية والإعلامية والفنية وراء هذا التهييج الذي كشف حجم الانهيار في النظام العربي في مختلف تجلياته السياسية والإعلامية والثقافية والرياضية . كان لافتا حضور مكثف لسياسين وإعلاميين وفنانين منهم على سبيل المثال لا الحصر مثل أبوجرة سلطاني زعيم حركة السلم الجزائرية ومثل المغني محمد فؤاد والممثل أحمد بدير..... والقائمة طويلة ممن ظهروا في الجمهور ممن أعرف وممن لا أعرف . كما كان من اللافت حجم الانخراط الرسمي في هذه " المعركة" المصيرية التي أصبحت تهدد العلاقات الرسمية بين البلدين . لكنه كان من اللافت أن هؤلاء النجوم والسياسيين والإعلاميبن لم يقوموا بدورهم في رد الأمور إلى نصابها ، وتقديم نماذج في الروح الرياضية ، بل على العكس من ذلك تحولوا إلى جزء من لعبة التجييش والتهييج . فماذا تننظرون بعد ذلك من الجماهير المصرية والجزائرية في القاهرة أو الجزائر أو الخرطوم أو باريس أو مارسيليا . فاللهم الطف بنا فيما جرت المقادير . وحسنا فعل الفريق المغربي حين صام عن التأهل لكأس العالم وكأس إقريقيا لأنه لا يوجد في ظل هذا السقوط الأخلاقي للرياضة العربية الذي جرته إليه السياسة العربية من يستحق أن يمثل الشعوب العربية .