انطلاقا من قوله صلى الله عليه و سلم " الدينَ النصيحةُ . قالوا : لمَن يا رسولَ اللهِ ؟ قال : للهِ ، وكتابِه ، ورسولِه ، وأئمةِ المؤمنين وعامَّتِهم "(رواه أبو داود). وتفاعلا مع ما يجري من إعدادات واستعدادات للاستحقاقات المقبلة(الانتخابات الجماعية)، رأيت أن أقارب هذا الموضوع من منطلق الباحث المتتبع لشؤون المجتمع، المعايش لهمومه وتطلعاته، المستحضر للمقام الذي يكتب فيه، والواضع بعين الاعتبار الشريحة العريضة التي يخاطبها، بعيدا في ذلك عن كل الأيديولوجيات المقيتة والأفكار الميتة التي أعمت القلوب والأبصار وخلطت عند الكثيرين الليل بالنهار، ومشيرا إلى ما يلي: في البداية لابد من تحرير محل النزاع على حد تعبير الفقهاء، في إزالة الخلاف بين من يرى في المشاركة السياسية وسيلة للإصلاح والتغيير واختيار الأنسب للقيام بمصالح الناس، وبين من يرى أن السياسة ملعونة، ملعون ما فيها بدعوى أنها طريق الفساد والإفساد والظلم الاستبداد، وهنا نشير إلى ما يلي: السياسة تنقسم بحسب من يقوم بأمورها إلى نوعين:" سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها. وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم وتدفع كثيرا من المظالم، وتردع الفساد ويتوصل بها إلى مقاصد الشريعة...فالشريعة توجب المصير إليها، والاعتداد بإظهار الحق بها"( أنظر مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، علال الفاسي، ص 59) فهذا القول يؤكد أن الشرع يدعوا إلى العملية السياسية التي تبحث عن الحق وترد الظلم والفساد وتراعي المقاصد، ويصد عن السياسة الظالمة والمستبدة، لأن السياسة الشرعية " باب واسع يشمل كل ما فيه مصلحة للأمة الإسلامية...وهي تقوم على أساس الموازنة بين المنافع والمضار، والمكاسب والخسائر، فلا ينبغي أن نقف منها موقف المتشنج الذي يرفض كل شيء، ولا موقف من يقبل أي شيء أيضا" (أنظر كتاب لقاءات..ومحاورات حول قضايا الإسلام والعصر، يوسف القرضاوي، ص 147) والقاعدة الفقهية المشهورة عند السلف والخلف تنتهي إلى القول بأنه"ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" وإصلاح شؤون العامة أمر واجب، لكنه لا يقوم إلا بواجب آخر وهو انتخاب من يقوم بهذا الأمر(للتفصيل في الأمر يمكن الرجوع إلى كتابي: الاجتهاد والتجديد في الفكر المقاصدي دراسة في إمكانات التفعيل ص 130). والحال هاته إذن، فإن قضية المشاركة السياسة تعتبر أمانة ومسؤولية سواء للناخب أو المنتخب، فبالنسبة للناخب تكون وسيلته للضرب على أيدي المفسدين واختيار الأنسب ليقوم بمصلحته، كما أن مشاركته تسد الطريق أمام المفسدين الذين تزيد فرصتهم في (النجاح) كلما زادت نسبة امتناع أهل الخير والصلاح، فلا ينبغي أن يظن أن الامتناع عن المشاركة السياسية تنزه أو فضيلة، كما لا يحق أخلاقيا ومن باب الموضوعية، لمن يمتنع عن المشاركة في الاختيار أن يناقش بعد ذلك أي خيار، لأنه امتنع عن الأصل فكيف له أن ينتقد الفرع، أو يقوم بتقييم ما اختاره غيره. أما المنتخب أو من يقتحم حمى تسيير وتدبير شؤون الناس فعليه أن يتقى الله و يستشعر عظم المسؤولية ومدى خطورتها، كما يستحضر كذلك عظم أجرها إن هو أعطاها حقها، لأنها تتطلب حفظ الأمانة والعلم بطريقة أدائها، فقد قال يوسف عليه السلام لملك مصر" اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ "(سورة يوسف الآية 55)، مصرحا بمناط قدرته على تلك المهمة في الحفظ والعلم، وقالت كذلك ابنة شعيب في حق موسى عليه السلام لأبيها "يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِين" (القصص الآية 26) مصرحة في ذلك بأهليته للاستجارة في قوته وأمانته. ومن ليس شأنه كذلك فخير له أن يعرض عن ذلك، لأن العزة المتوهمة التي ينشدها بعض من يدخل من أجلها حقل السياسة تورث ذلا وبيلا لصاحبها في الدنيا قبل الآخرة "فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ"(سورة غافر الآية 4) يوسف عطية: أستاذ باحث في أصول الفقه ومقاصد الشريعة