العيون تُعلن عاصمة للمجتمع المدني المغربي لسنة 2025    السنغال تبدأ تنفيذ مشروع أنبوب الغاز الرابط بين المغرب ونيجيريا    الكاف: أكثر من 90 بلدا سيتابعون قرعة كأس أمم إفريقيا بالمغرب    تأني الفتح يغلب استعجال الرجاء    نادي الشارقة الإماراتي يعلن تعاقده مع اللاعب المغربي عادل تاعرابت    جريمة تهز وزان: مقتل سيدة وإصابة شقيقتها في اعتداء دموي بالسلاح الأبيض    خال السعدي بين "ضحايا تارودانت"    اعتقال ثلاثة قاصرين بهولندا على خلفية تفجيرات في ألميري    الشرقاوي حبوب: تفكيك خلية إرهابية بمنطقة حد السوالم يندرج في إطار الجهود المبذولة للتصدي للخطر الإرهابي    نشرة خاصة.. هبات رياح محليا قوية الاثنين والثلاثاء بهذه المناطق    وزارة التربية الوطنية تكشف خلاصات لقاءات العمل المشترك مع النقابات التعليمية    الدورة 35 لماراطون مراكش الدولي: العداء الكيني ألفونس كيغين كيبووت والإثيوبية تيرفي تسيغاي يفوزان باللقب    المغرب يحقق سابقة تاريخية في كأس إفريقيا.. معسكرات تدريبية فاخرة لكل منتخب مشارك    إحباط تهريب 200 كيلوغرام من الحشيش بميناء سبتة المحتلة    المفوضية الأوروبية: الاتفاقيات الجوية بين المغرب والاتحاد الأوروبي لا تشمل الصحراء    تقرير: المغرب يواجه عام 2025 بتطلعات متفائلة مدعومة بالتعاون الاقتصادي مع الخليج وأوروبا    تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية ومرفوضة فلسطينيا وعربيا.. ترامب يقترح ترحيل الفلسطينيين من غزة إلى الدول العربية المجاورة    الملك محمد السادس يهنئ الحاكمة العامة لكومنولث أستراليا بمناسبة العيد الوطني لبلادها    تراجع للدرهم أمام الأورو.. و4% نمو سنوي في الاحتياطيات    هذه خطة المغرب لتعزيز شراكته الاقتصادية مع الصين وتقليص العجز التجاري    يوعابد ل"برلمان.كوم: منخفض جوي يعيد الأمطار إلى المغرب يوم الإثنين والثلاثاء    الشرقاوي: تفكيك الخلية الإرهابية بحد السوالم يندرج في إطار التصدي للخطر الإرهابي    غرق بحار ونجاة أربعة آخرين بعد انقلاب قارب صيد بساحل العرائش    وزارة الصحة تعلن عن الإجراءات الصحية الجديدة لأداء مناسك العمرة    15 قتيلا بنيران إسرائيل بجنوب لبنان    "كاف": الركراكي مطالب بالتتويج    ريدوان وحاتم عمور وجيمس طاقم تنشيط حفل قرعة كأس أمم إفريقيا    بعد نجاحه مع نشيد ريال مدريد.. ريدوان يستعد لإطلاق أغنية خاصة ب"أسود الأطلس"    تفكيك "شبكة حريڭ" باستخدام عقود عمل مزورة    كأس الأمم الإفريقية لكرة القدم: الكشف عن الشعار الرسمي للبطولة    تفشي مرض الحصبة في المغرب.. الوضع يتفاقم والسلطات تتحرك لمواجهة اتساع رقعة انتشاره    تدشين وإطلاق عدة مشاريع للتنمية الفلاحية والقروية بإقليم شفشاون    وزارة التجهيز والماء تطلق ورشات تشاورية لتثمين الملك العمومي البحري    الطماطم المغربية تغزو الأسواق الأوروبية أمام تراجع إسبانيا وهولندا    جمعوية: الكلاب المتخلى عنها الأخطر على المواطنين مقارنة بالضالة    المغرب حاضر بقوة في المعرض الدولي للسياحة في مدريد    أساتذة "الزنزانة 10" يحتجون بالرباط‬    رحلة مؤثر بريطاني شهير اكتشف سحر المغرب وأعلن إسلامه    شبكة صحية تنتقد الفشل في التصدي ل"بوحمرون" وتدعو لإعلان حالة طوارئ صحية    المحكمة الكورية ترفض طلب تمديد اعتقال الرئيس المعزول    الصين: ارتفاع الإيرادات المالية بنسبة 1,3 بالمائة في 2024    فرص جديدة لتعزيز الاعتراف بالصحراء المغربية في ظل التحولات السياسية المرتقبة في كندا والمملكة المتحدة    أخنوش أصبح يتحرك في المجالات الملكية مستبقا انتخابات 2026.. (صور)    الجزائر تتجه نحو "القطيعة" مع الفرنسية.. مشروع قانون لإلغائها من الجريدة الرسمية    معرض القاهرة الدولي للكتاب .. حضور وازن للشاعر والإعلامي المغربي سعيد كوبريت في أمسية شعرية دولية    لقاء ينبش في ذاكرة ابن الموقت    الولايات المتحدة.. طائرات عسكرية لنقل المهاجرين المرحلين    الخارجية الأمريكية تقرر حظر رفع علم المثليين في السفارات والمباني الحكومية    القنصلية العامة للمملكة بمدريد تحتفل برأس السنة الامازيغية    هوية بصرية جديدة و برنامج ثقافي و فني لشهر فبراير 2025    وزارة الصحة تعلن عن الإجراءات الصحية الجديدة لأداء مناسك العمرة    من العروي إلى مصر :كتاب "العناد" في معرض القاهرة الدولي    فعاليات فنية وثقافية في بني عمارت تحتفل بمناسبة السنة الأمازيغية 2975    غياب لقاح المينانجيت في الصيدليات يعرقل سفرالمغاربة لأداء العمرة    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حليمة برقوق ..
نشر في بني ملال أون لاين يوم 04 - 02 - 2012


حليمة برقوق ..
بيت مظلم أشبه بمغارة بدائية ، يوصد بابه بقفل أخضر من طراز بائد ، يؤرخ للعهود الأولى لابتكار الأقفال ، إنه بجدارة تحفة ناذرة يصلح عرضها لتعميم الفائدة و المتعة ! كانت النسوة قديما يوظفن أمثاله أيام العصر الذهبي للصناديق الخشبية ، التي قامت الدواليب مقامها اليوم !! و قدوم المرأة يتبعها الصندوق إلى بيت أهلها ، عربون على تشنج العشرة الزوجية أو استحالتها كما أن شأنها يقاس بحجم صندوقها ، و جدته و زينته و صباغته ، بل و رائحته !! و التشمر برزمة مفاتيح مجلجلة على مقدم الكتف من دعامات التجمل وقتها . يا الله ! كم حفظت تلك الصناديق في أحشائها ، ما لم تحفظ الأيام ولا رعت ، من شهادات عن أزمنة عز و هناء ، و أخرى دموع و مآس !!
يتناهى إلى االسمع من داخل البيت هديل رتيب و مخيف ليمام يبدو أنه في قفص ، لا يحدث أن تسمعه إلا في أروقة و قباب الأضرحة ! كما تتسرب إلى أنفك رائحة قوية من إبريق قهوة و زعتر جبلي . و على جانب المدخل قط بارز الأضلاع ، دثر رماد الموقد بياضه ، يمدد ساقه خلف رقبته في تثاؤب ... يتراءى من الظلام تحرك عجوز مثل شبح ، تطل برأسها الصغير المكور ، فتبدو مقوسة الظهر كأنما أثقلتها حقيبة الزمن !! سمراء السحنة ، تكاد عظامها تفصح بهزالها و إعيائها ، و سوء حالها و قسوة وحدتها ، خصلات بين الحمرة و الشيب تشرف من على مقربة من صدغها ، من تحت " كنبوش " فقد لونه بخضاب الحناء . أذناها ذابلتان ، مثقلتان بقرطين من الفضة ، غدا الثقبان المخصصان لهما فجوتين مقززتين ! و وشم باهت بين الحاجبين و على الذقن و العنق ، يشهد على ما يشهد !! و أنف مطلي باللاتوخ بشكل عبثي تنفرمنه العين قبل النفس ! نهارها جلوس على قارعة الطريق ، على حصير صغير من دوم متآكل ، مسندة ظهرها إلى جدار بيتها المتحامل على نفسه ، مثل حارس المقبرة المقعد . تراقب المارة بعينين ضيقتين شاحبتين ، و بيدها مروحة من الكارطون تهش بها ذباب الصيف العنيد !! ترد على التحيات بأفضل منها ، و تعطرها أحيانا بدعابة و مزاح . هكذا عرفتها وحيدة بلا زوج و لا أولاد و لا من يسأل عنها . اتخذت من سكان الحارة صغارا و كبارا أهلا لها ...
فعلا الصدفة تكذب هندسة الأكيد ! فقد عرفتُ من أحد الشيوخ أنها كانت مضرب مثل في الجمال إبان شبابها ، امتهنت الغناء ضمن مجموعة في الحفلات و الأعراس ، و أصبحت " شيخة " ذائعة الصيت و بلغ خبرها أقصى البلدان ، صالت و جالت و هتف بها الناس ، أجادت الغناء بصوت رخيم ، و برعت في الرقص . و يذكرُ كيف أنها كانت ترقص على رجل واحدة في خفة و رشاقة ! أيام الاحتفالات بالمواسم كانت تضع عمامة على رأسها ، و تركب خلف فارس ماهر مقدام ، يقوم بحركات بهلوانية تفغر لها الأفواه ، على جواده المنطلق في سرعة البرق ، من ذلك أن يجازف بالمرور من تحت فرسه و يعود سالما إلى صهوته ، أما هي فتطلق صيحة " تاموايت " التي تهز الأعطاف ، و ترتجف لها القلوب ، و شعرها الأسود الطويل الناعم يتبعها في الهواء . و ترتفع الزغاريد و الهتافات من جنبات ساحة الفروسية المكتظة إلى ما بعد قصف البنادق . هي الساحة ذاتها التي شهدت منافسات قوية بين خيرة خيالة القبائل استعراضا و مهارة و بسالة ... و لطالما كانت " حليمة " مثار خلافات و خصومات و معارك بين القواد و زعماء القبائل . أما هي ففراشة لا يهدأ قلبها على مستقر ، أحبت الحرية و الزهو و الشدو .. و رفضت الأقفاص الذهبية ، بل لم تخلق لترد عليهم ..لا و ليس لها متسع من الوقت لفعل ذلك .. تستهويها الأزهار و الرياحين فتبرح في أريجها الأثوال !
و هنا يتأكد أيضا أن الزمن و المرض و الفراق عوامل تعطل بوصلة الذاكرة !! ذلك أنني سمعت بخبر وفاتها في فرن الحارة من إحدى جاراتها ، التي حضرت احتضارها الذي لم يدم طويلا ، حيث تناولت أنفاسا عميقة من غليون قنب هندي ، ثم رددت الشهادتين ، فأسلمت روحها إلى الباري من غير تمنع ...
كانت الرحلة إلى هذه الفضاءات غير مسبوقة .. التفت نحوي صاحب الفرن ، الطاعن في السن ، و قال لي فيما يشبه الهمس :
" أنا لي بغيتك يا بني ملال !! "
هذا ما قاله " جلول " على مشارف المدينة ، و هو يودعها مشيا على الأقدام ، قافلا إلى بلدته بالضواحي . وقفته هيئة من لم يبق له ما يخسره بعد أن خسر كل شيء .. ليس نادما على ما بدده من أموال طائلة في سنوات قليلة . كان يبيع الفدان تلو الفدان و يقيم الليالي الحسان في اللذة و القصف ، سخيا مع ندمائه جودا حاتميا !
من لم يعرف " حليمة " و " ولد شطو " غاب عنه السمر و الطرب و الهيام و حب الحياة ! بسبب عبية "جلول " و بذله ، و عشقه الكبير للعيوط الملالية ، عاشر زيجات سبع ! و انفصل عنهن جميعهن تباعا! في سبيل الشيخة " حليمة " التي حملته على أن ينساهن ، و ينسى كل شيء حتى نفسه !! ميسون تتقدم و الغزلان خلفها .. و " ولد شطو " معانق كمانه يروي ملاحم المدينة ، و زمانها و امكنتها ، و أعيانها و أولياءها الصالحين من قبيل " سيدي أحمد بلقاسم " و سيدي بو القنادل " و" لالة بقاشة " ... أما " جلول " فيتملى في صفاء عيني " حليمة " ، و يركب ألحاظها سفرا نحو مجهول .. قد لا يكون منه أمل في العودة إلى بر الأمان ! و هل هناك بر أمان غير مرافئ ابتسامتها و نظراتها؟!!
عندما يدس يده في جيبه ، و يدرك أن ذخيرة المال قد نفذت أو تكاد يتوارى عن الأنظار ، و لا يظهر إلا و معه ما يكرم به نفسه و جلساءه ، و ما يعيد به البسمة إلى ثغر ميسونه و قطيعها ! و يستأنف مرافقة مواكب الحفلات و الأعراس ، من بيت إلى آخر ، مرورا بحارات المدينة و أزقتها . مشدودا إلى ألوان الفساتين الزاهية ، و متمليا في الشعور المخملية المنسابة على الأكتاف و المتطايرة في الهواء ، و هي توشك أن تلامس الأرض . و تحرك فيه أنغام " الغيطة " و الطبل و البندير و أهازيج النسوة العذبة الظل المختمر ، فتراه شخصا مترنحا خرج من ذاته رغما عن أنفه ، يردد فيما يماثل المس :
بينا و بين الجامع ريحة الجاوي
يا النبي يامحمد يا العدراوي
ها الجاوي ها صلبان
لي فيه الحال يبان
حل الباب ألخاوة
حبابك جايين ...
ذات صيف اختفى " جلول " فجأة كمن ابتلعته الأرض ، و تعاقبت الأيام على تبخره و انقطاع أخباره ، و تناسلت الروايات و كثرت المزاعم بشأنه ، بلغت حدود الادعاء بتعر ضه للقتل !!
و أردف جليس صاحب الفرن في لوعة من سيغني بعد اليوم :
الزين المشعار
مكدم العرعار
من الواد لهيه
كاع راشق ليه
عين أسردون
الرابحة العيون
الوشام الركيك
لمن دايراه
الناس لي كنعرف
مشات كتخرف ...
أما الآن و قد رحلت " حليمة " و معها أسرارها ، ترى هل كان اختيارها ثابتا إلى رمقها الأخير، و لم يعترها ندم قط ، بحجم مبدإ : الفن من أجل الفن ؟! و الحرية من أجل الحرية ؟!!!
ملا حظة : أي تشابه في الأسماء أو الأحداث هو محض صدفة
!!
إدريس الهراس/ الفقيه بن صالح .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.