حليمة برقوق .. بيت مظلم أشبه بمغارة بدائية ، يوصد بابه بقفل أخضر من طراز بائد ، يؤرخ للعهود الأولى لابتكار الأقفال ، إنه بجدارة تحفة ناذرة يصلح عرضها لتعميم الفائدة و المتعة ! كانت النسوة قديما يوظفن أمثاله أيام العصر الذهبي للصناديق الخشبية ، التي قامت الدواليب مقامها اليوم !! و قدوم المرأة يتبعها الصندوق إلى بيت أهلها ، عربون على تشنج العشرة الزوجية أو استحالتها كما أن شأنها يقاس بحجم صندوقها ، و جدته و زينته و صباغته ، بل و رائحته !! و التشمر برزمة مفاتيح مجلجلة على مقدم الكتف من دعامات التجمل وقتها . يا الله ! كم حفظت تلك الصناديق في أحشائها ، ما لم تحفظ الأيام ولا رعت ، من شهادات عن أزمنة عز و هناء ، و أخرى دموع و مآس !! يتناهى إلى االسمع من داخل البيت هديل رتيب و مخيف ليمام يبدو أنه في قفص ، لا يحدث أن تسمعه إلا في أروقة و قباب الأضرحة ! كما تتسرب إلى أنفك رائحة قوية من إبريق قهوة و زعتر جبلي . و على جانب المدخل قط بارز الأضلاع ، دثر رماد الموقد بياضه ، يمدد ساقه خلف رقبته في تثاؤب ... يتراءى من الظلام تحرك عجوز مثل شبح ، تطل برأسها الصغير المكور ، فتبدو مقوسة الظهر كأنما أثقلتها حقيبة الزمن !! سمراء السحنة ، تكاد عظامها تفصح بهزالها و إعيائها ، و سوء حالها و قسوة وحدتها ، خصلات بين الحمرة و الشيب تشرف من على مقربة من صدغها ، من تحت " كنبوش " فقد لونه بخضاب الحناء . أذناها ذابلتان ، مثقلتان بقرطين من الفضة ، غدا الثقبان المخصصان لهما فجوتين مقززتين ! و وشم باهت بين الحاجبين و على الذقن و العنق ، يشهد على ما يشهد !! و أنف مطلي باللاتوخ بشكل عبثي تنفرمنه العين قبل النفس ! نهارها جلوس على قارعة الطريق ، على حصير صغير من دوم متآكل ، مسندة ظهرها إلى جدار بيتها المتحامل على نفسه ، مثل حارس المقبرة المقعد . تراقب المارة بعينين ضيقتين شاحبتين ، و بيدها مروحة من الكارطون تهش بها ذباب الصيف العنيد !! ترد على التحيات بأفضل منها ، و تعطرها أحيانا بدعابة و مزاح . هكذا عرفتها وحيدة بلا زوج و لا أولاد و لا من يسأل عنها . اتخذت من سكان الحارة صغارا و كبارا أهلا لها ... فعلا الصدفة تكذب هندسة الأكيد ! فقد عرفتُ من أحد الشيوخ أنها كانت مضرب مثل في الجمال إبان شبابها ، امتهنت الغناء ضمن مجموعة في الحفلات و الأعراس ، و أصبحت " شيخة " ذائعة الصيت و بلغ خبرها أقصى البلدان ، صالت و جالت و هتف بها الناس ، أجادت الغناء بصوت رخيم ، و برعت في الرقص . و يذكرُ كيف أنها كانت ترقص على رجل واحدة في خفة و رشاقة ! أيام الاحتفالات بالمواسم كانت تضع عمامة على رأسها ، و تركب خلف فارس ماهر مقدام ، يقوم بحركات بهلوانية تفغر لها الأفواه ، على جواده المنطلق في سرعة البرق ، من ذلك أن يجازف بالمرور من تحت فرسه و يعود سالما إلى صهوته ، أما هي فتطلق صيحة " تاموايت " التي تهز الأعطاف ، و ترتجف لها القلوب ، و شعرها الأسود الطويل الناعم يتبعها في الهواء . و ترتفع الزغاريد و الهتافات من جنبات ساحة الفروسية المكتظة إلى ما بعد قصف البنادق . هي الساحة ذاتها التي شهدت منافسات قوية بين خيرة خيالة القبائل استعراضا و مهارة و بسالة ... و لطالما كانت " حليمة " مثار خلافات و خصومات و معارك بين القواد و زعماء القبائل . أما هي ففراشة لا يهدأ قلبها على مستقر ، أحبت الحرية و الزهو و الشدو .. و رفضت الأقفاص الذهبية ، بل لم تخلق لترد عليهم ..لا و ليس لها متسع من الوقت لفعل ذلك .. تستهويها الأزهار و الرياحين فتبرح في أريجها الأثوال ! و هنا يتأكد أيضا أن الزمن و المرض و الفراق عوامل تعطل بوصلة الذاكرة !! ذلك أنني سمعت بخبر وفاتها في فرن الحارة من إحدى جاراتها ، التي حضرت احتضارها الذي لم يدم طويلا ، حيث تناولت أنفاسا عميقة من غليون قنب هندي ، ثم رددت الشهادتين ، فأسلمت روحها إلى الباري من غير تمنع ... كانت الرحلة إلى هذه الفضاءات غير مسبوقة .. التفت نحوي صاحب الفرن ، الطاعن في السن ، و قال لي فيما يشبه الهمس : " أنا لي بغيتك يا بني ملال !! " هذا ما قاله " جلول " على مشارف المدينة ، و هو يودعها مشيا على الأقدام ، قافلا إلى بلدته بالضواحي . وقفته هيئة من لم يبق له ما يخسره بعد أن خسر كل شيء .. ليس نادما على ما بدده من أموال طائلة في سنوات قليلة . كان يبيع الفدان تلو الفدان و يقيم الليالي الحسان في اللذة و القصف ، سخيا مع ندمائه جودا حاتميا ! من لم يعرف " حليمة " و " ولد شطو " غاب عنه السمر و الطرب و الهيام و حب الحياة ! بسبب عبية "جلول " و بذله ، و عشقه الكبير للعيوط الملالية ، عاشر زيجات سبع ! و انفصل عنهن جميعهن تباعا! في سبيل الشيخة " حليمة " التي حملته على أن ينساهن ، و ينسى كل شيء حتى نفسه !! ميسون تتقدم و الغزلان خلفها .. و " ولد شطو " معانق كمانه يروي ملاحم المدينة ، و زمانها و امكنتها ، و أعيانها و أولياءها الصالحين من قبيل " سيدي أحمد بلقاسم " و سيدي بو القنادل " و" لالة بقاشة " ... أما " جلول " فيتملى في صفاء عيني " حليمة " ، و يركب ألحاظها سفرا نحو مجهول .. قد لا يكون منه أمل في العودة إلى بر الأمان ! و هل هناك بر أمان غير مرافئ ابتسامتها و نظراتها؟!! عندما يدس يده في جيبه ، و يدرك أن ذخيرة المال قد نفذت أو تكاد يتوارى عن الأنظار ، و لا يظهر إلا و معه ما يكرم به نفسه و جلساءه ، و ما يعيد به البسمة إلى ثغر ميسونه و قطيعها ! و يستأنف مرافقة مواكب الحفلات و الأعراس ، من بيت إلى آخر ، مرورا بحارات المدينة و أزقتها . مشدودا إلى ألوان الفساتين الزاهية ، و متمليا في الشعور المخملية المنسابة على الأكتاف و المتطايرة في الهواء ، و هي توشك أن تلامس الأرض . و تحرك فيه أنغام " الغيطة " و الطبل و البندير و أهازيج النسوة العذبة الظل المختمر ، فتراه شخصا مترنحا خرج من ذاته رغما عن أنفه ، يردد فيما يماثل المس : بينا و بين الجامع ريحة الجاوي يا النبي يامحمد يا العدراوي ها الجاوي ها صلبان لي فيه الحال يبان حل الباب ألخاوة حبابك جايين ... ذات صيف اختفى " جلول " فجأة كمن ابتلعته الأرض ، و تعاقبت الأيام على تبخره و انقطاع أخباره ، و تناسلت الروايات و كثرت المزاعم بشأنه ، بلغت حدود الادعاء بتعر ضه للقتل !! و أردف جليس صاحب الفرن في لوعة من سيغني بعد اليوم : الزين المشعار مكدم العرعار من الواد لهيه كاع راشق ليه عين أسردون الرابحة العيون الوشام الركيك لمن دايراه الناس لي كنعرف مشات كتخرف ... أما الآن و قد رحلت " حليمة " و معها أسرارها ، ترى هل كان اختيارها ثابتا إلى رمقها الأخير، و لم يعترها ندم قط ، بحجم مبدإ : الفن من أجل الفن ؟! و الحرية من أجل الحرية ؟!!! ملا حظة : أي تشابه في الأسماء أو الأحداث هو محض صدفة !! إدريس الهراس/ الفقيه بن صالح .