إعلان رئيس الحكومة المكلف مساء السبت عن تشكل تحالف الأغلبية المكون من ستة أحزاب، يضع حدا ل"بلوكاج" دام حوالي نصف العام، ويفتح الباب نحو استكمال باقي الخطوات الهيكلية لتعيين الحكومة رقم 32 في تاريخ بلادنا، والثانية في ظل دستور2011، وأوساط عديدة في المغرب تنادي اليوم بهذا المطلب، أي أن تتوفر للبلاد حكومة، وأن تعود الحياة لمنظومة عمل الإدارة والاقتصاد والمؤسسات. لكن، من المؤكد أن المرحلة اليوم، وأيضا الشهور التي سبقتها، ليست عادية ولم نعبرها بلا استعصاء، وكل ما حدث على صعيد المواقف والتموقعات والاصطفافات والعلاقات بين الأحزاب وأطراف التفاوض، يفرض اليوم التأمل وتعميق التفكير في مستقبل بلادنا ومسارها الديموقراطي. في مراحل تاريخية معينة نكون في حاجة إلى إعادة استحضار الثوابت وبديهيات التأسيس علها تسعفنا في تحديد الهدف، وفِي توضيح الفروق بين ما هو جوهري وما هو ثانوي، ولننجح في مثل هذا التمرين لابد أن نمسك بتحليل وقراءة الواقع السياسي والمجتمعي كما هو، وليس كما نتخيله أو نتمناه. ولهذا، يجب أن ينكب كل طرف حزبي على فحص مواقفه وسياقاتها وتداعياتها كما تابعها شعبنا طيلة الشهور التي أعقبت اقتراع سابع أكتوبر الماضي، وعلى الباحثين الموضوعيين والمؤرخين ومحللي السياسة بلورة قراءات جدية وعلمية لكل ما حدث، وصياغة الدروس التي تفيد المستقبل بلا حسابات قصيري النظر، ومن دون تفاهة اُسلوب الشماتة وتصفية مختلف الحسابات والعقد. بغض النظر اليوم عما سيميز هيكلة الحكومة الجديدة أو مسار عملها والعلاقات بين مكوناتها وقطاعاتها، فإن المرحلة تفرز أسئلة كبرى مطروحة على البلاد برمتها وعلى مجموع نخبها السياسية والاقتصادية والثقافية، ويجب أن تبدأ القراءة، وأن يجري الشروع في البحث عن مداخل الجواب، وذلك انطلاقا من السنوات التي سبقت حراكات 2011، ودستور وانتخابات العام ذاته، وربما حتى من فترة الانتخابات التشريعية التي جرت قبل ذلك، وكامل هذه الصيرورة الزمنية والسياسية يجب أن تكون موضوع تقييم صريح للأساليب والأهداف والقوانين، وأيضا الخطط المعلنة وغير المعلنة، وكذلك من خلال العودة إلى مواقف مختلف الأطراف الحزبية والإدارية وحساباتها. إن العودة بالكلام إلى سنوات سابقة من شأنه إضفاء بعض الجدية على التحليل، وإتاحة فهم أعمق وأوضح لوقائع اليوم، ومن ثم تأسيس البناء للمستقبل على قواعد متينة وصريحة ومتحررة من هواجس وتخوفات ذلك الزمان. في كل أدبيات الرواد والمؤسسين وتجارب البلدان والشعوب، تبقى السياسة، في بدء الكلام ومنتهاه، هي تدبير الممكن، وما بلغته مشاورات الأحزاب عندنا هو ما جرى الإعلان عنه مساء السبت. صحيح، ان النتيجة المعلنة خلفت جدلا كبيرا وسط شعبنا وعبر مواقع التواصل الاجتماعي وداخل هياكل عديد أحزاب، وهذا لوحده معطى سياسي وسوسيولوجي لم يكن معهودا من قبل، ويجب على مخططي السياسة عندنا أخذه بعين الاعتبار وبالتالي الانتباه إليه وإلى امتداداته في المجتمع وفِي النفسية العامة… وصحيح أيضا أن الحزب الذي تولى تشكيل الحكومة وأغلبيتها بحكم تصدره نتائج الاقتراع تحمل كثير مصاعب، ويوجد في وضعية دقيقة، من مصلحة بلادنا أن يخرج منها منتصرا وموحدا ومستقرا. من يمارس اليوم لعبة "التشيار" بالكلام، ولا يجيد سوى الاستلقاء خلف حاسوبه و"الحرث باللسان" وبنقرات أصابعه، وتقديم الوصفات للأحزاب، وتوزيع الصفات والنعوت والتهم على هذا السياسي أو ذاك، هو لن ينفع مستقبلنا السياسي في شيء، وليس ب"اللسان" نغير وقائع السياسة وموازين القوى. ومن كان ينادي بتحقيق صيغة حكومية غير التي جرى الإعلان عنها، فذلك لن يتم، على كل حال، بمجرد عرض النوايا أو من خلال لعبة رفع سقوف الشعار وكلمات الخطب والبلاغات، ذلك أن الواقع أكثر تعقيدا من تبسيطية بعض مدعيي التحليل عندنا، كما أن خيارات التحليق في كل السماوات النظرية، لم تكن لتقود سوى إلى وضعيات أخرى لن تخدم البلاد والمؤسسات والسياسة واستقرار الحياة الديموقراطية والتعددية، وهذا لا يريده أحد. ولكن، إلى جانب كل ما سلف، فإن الأكثر أهمية اليوم هو أن تواصل طبقتنا السياسية والحزبية ونخبنا الوطنية التفكير الرصين والموضوعي في مستقبل بنياننا الديموقراطي والمؤسساتي، وفِي حماية النموذج السياسي المغربي، وصيانة التعددية ودولة المؤسسات. يجب إذن أن تجد البلاد طريقها نحو هذه الأهداف لتتفادى التراجعات، ولتنهض بالسياسة، وذلك ضمن نسق عام يحتضن الجميع ويتسع للكل، داخل سقف المصلحة الوطنية واستقرار البلاد ووحدتها، ومن أجل خدمة مصالح شعبنا وكسب رهانات التنمية والتقدم والديموقراطية والاستقرار. المغرب اليوم في حاجة فعلا إلى حكومة، ومؤسسات البلاد يجب أن تستعيد كلها حياتها الاعتيادية، وكثير قطاعات إدارية وتجارية واقتصادية يجب أن تخرج من الجمود ومن المنغلقات المهددة لها، كما أن تحديات داخلية وخارجية مطروحة بقوة أمامنا اليوم، ولا بد من تعبئة كل الجهود للنجاح فيها من دون إبطاء أو تأخر. لكن بالقوة نفسها، لا بد كذلك أن نمسك بدرس آخر قدمه لنا زمن البلوكاج، وهو حاجة بلادنا إلى أحزاب حقيقية لها الوحدة الداخلية والاستقرار التنظيمي وإمكانيات الإشعاع والامتداد والعمل، وتمتلك كذلك مصداقية الوجود، واستقلالية القرار، ووضوح التعبير عن المواقف… مصلحة بلادنا ومستقبلها الديموقراطي واستقرارها السياسي والمجتمعي هنا بالضبط، أي في الكف عن إضعاف صمامات أمانها، وهي الأحزاب الجدية وذات التاريخ والأصل والمصداقية. وهذا بالذات ما يجعلنا نفكر فيما قبل استحقاقات 2011، ذلك أن المسلسل كان قد انطلق وقتها، ثم تواصل مع اقتراع زمن الحراكات وخشيتها، واستمر، بشكل أو بآخر، بعد ذلك في الاقتراعين، الجماعي والتشريعي، الماضيين، ومن كان ينظر لكامل هذه الممارسات العقيمة يجب أن يقدم اعتذاره اليوم عن كل الوقت الذي أضاعته بلادنا، ومن ثم يجب أن يتأسس الزمن الجديد على رفض العقلية السابقة، والعمل الجماعي لتمتين الأحزاب الجدية، وتقوية مقتضيات الاستقرار الديموقراطي في بلادنا، وتفادي تكرار الأخطاء والخطايا في كل مرة بصيغة جديدة وشخوص غير الذين سبقوها. مسؤولية الحكومة الجديدة تكمن في إنتاجها لمعنى سياسي وعملي مختلف، وأن تعزز تعاون مكوناتها لمصلحة البلاد، وأن تؤسس لنفسها صورة جديدة في المشهد العمومي وفِي المنجز الميداني، ومن ثم تتولى الطبقة السياسية، من جهتها، الانكباب على بلورة مرتكزات وتوافقات مرحلة سياسية جديدة بلا إقصاء أو استهداف لهذا الطرف الحزبي أو ذاك، وأن تكون مكرسة للثقة بين مؤسسات البلاد، ومنتصرة ل"لوصفة السحرية" المغربية، وهي التوافق، وأيضا السير إلى الأمام على طريق الديموقراطية والتحديث والتنمية والعدالة الاجتماعية. محتات الرقاص