كان الظلام قد أرخى سدوله وخيم الهدوء على المكان عند كنيسة مار يوحنا المعمدان في مدينة عنكاوا ذات الأغلبية المسيحية بمحافظة أربيل الكردية في شمال العراق حين اصطف الأسبوع الماضي عدد غير قليل من المسيحيين الذين فروا من بغداد خوفا من القتل. كان الجمع ينتظر وصول نعشي مسيحيين سقطا ضمن سلسلة من سقطوا في عمليات نفذتها جماعات مسلحة واستهدفت المسيحيين في العراق. وما هي إلا لحظات حتى مزقت صيحات ونحيب وبكاء نفر من المنتظرين صمت المكان عندما أطلت مركبة تحمل نعشين لعجوز وزوجته كانا قد قتلا في حي البلديات بشرق بغداد. جاء الحادث ضمن سلسلة عمليات مروعة طالت العديد من المسيحيين في بغداد وعدد آخر من المحافظات العراقية حيث طفت على السطح فجأة منذ عدة أسابيع جرائم مسلحة ومنظمة استهدفت المسيحيين وتوعد مرتكبوها بشن المزيد حتى أن الأمر وصل بإحدى الجماعات لأن تعلن أن المسيحيين في العراق «أهداف مشروعة للقتل». وإزاء تزايد حدة العنف وتنامي استهداف المسيحيين لم يكن أمام أبناء هذه الطائفة إلا الفرار إلى المحافظات الشمالية للإقليم الكردي بحثا عن ملاذ امن يقيهم شر هذه الجماعات ويجنبهم الموت الذي بدا يتراءى لهم في كل مكان في بلد مازالت جرائم القتل فيه لا تستثني أحدا من أبنائه. وقالت مصادر أمنية في بغداد أن حكمت البالغ من العمر 85 سنة وزوجته سميرة وعمرها 73 سنة وجدا مقتولين في منزلهما في حي البلديات. وذكرت المصادر أن الجريمة كانت بدافع السرقة وهو ما أكده مقربون للضحيتين شاركوا في مراسم التشييع وقالوا إنهما قتلا بعد أن عادا أدراجهما من أربيل التي فرا إليها مؤخرا. وأضافوا أنهما عادا إلى بغداد لبيع منزلهما ثم العودة إلى أربيل والاستقرار هناك بشكل نهائي. وقال فهمي متى مدير ناحية عنكاوا الذي كان من بين المشاركين في مراسم العزاء «للأسف لم يرحموهما رغم كبر سنهما». وأضاف «كان الزوجان قد راجعا دائرتنا قبل أيام وس جلا اسميهما في سجلات النازحين وذهبا إلى بغداد لبيع منزلهما والعودة والاستقرار في أربيل لكن المسلحين لم يمهلوهما وقتلوهما». وكانت عمليات استهداف المسيحيين في العراق قد بلغت ذروتها عندما هاجم ما يقرب من عشرة مسلحين في 31 من أكتوبر الماضي كنيسة سيدة النجاة في حي الكرادة بوسط بغداد أثناء وجود العشرات لأداء مراسم قداس الأحد. وتمكن المسلحون الذين كان قسم منهم يرتدي أحزمة ناسفة من اقتحام الكنيسة واحتجاز عشرات المصلين لساعات قبل أن تداهم القوات العراقية الكنيسة وتشتبك مع المسلحين وتتمكن من تحرير الرهائن. وبحسب المصادر الأمنية الرسمية في بغداد قتل أكثر من 50 شخصا أغلبهم من المسيحيين وأصيب ما يزيد عن 60 آخرين وتم تحرير أكثر من 100 محتجز. وأعلن تنظيم تابع للقاعدة مسؤوليته عن الواقعة في بيان جاء فيه أن المسيحيين «أهداف مشروعة للقتل». ولم يقف مسلسل استهداف المسيحيين عند هذا الحد بل استمر ليشمل مناطق أخرى في العراق مثل محافظة الموصل الشمالية التي شهدت في الفترة الأخيرة مقتل واختطاف عدد منهم. وقالت سوزان البالغة من العمر 30 عاما والتي كانت ضمن الناجين مما حدث في كنيسة سيدة النجاة «نزحت مع زوجي وابني الصغير وجئت إلى هنا في أربيل... المسلحون لم يسمحوا لنا بالبقاء في بغداد». وأضافت ولا تزال آثار الجراحة بادية تحت عينها بعد إصابتها أثناء اقتحام القوات العراقية للكنيسة «المسلحون لم يقبلوا أن نبقى في بغداد. قالوا لنا لن نسمح لكم بالبقاء لا في بغداد ولا في الشمال». وتحدثت سوزان عن الوضع الصعب الذي يواجهه المسيحيون النازحون في المحافظات الكردية لعدم تمكنهم من مواجهة متطلبات الحياة بسبب ارتفاع الأسعار وعلو إيجارات المنازل «هنا في أربيل ظروفنا صعبة للغاية.. إمكانياتنا المادية ضعيفة ولا ندري ماذا نفعل. كلفة إيجار منزل صغير تصل إلى 700 دولار وهذا مبلغ لا نقدر عليه». وأدى استهداف المسيحيين إلى هجرة المئات من الأسر المسيحية جلها من مدينة بغداد ومن محافظتي البصرة الجنوبية والموصل الشمالية. وقال مسؤولون أكراد إن عدد العوائل التي نزحت مؤخرا إلى محافظات الإقليم الكردي الثلاث ربما يصل إلى 500 عائلة. وقال شكر ياسين مدير عام دائرة الهجرة والمهجرين بوزارة الداخلية الكردية أن عدد العوائل المسجلة التي نزحت إلى الإقليم مؤخرا بلغ 256 عائلة مبينا أن هناك عوائل أخرى لم تسجل حتى الآن ومتوقعا أن تستمر عمليات النزوح في الفترة المقبلة. وكان الفاتيكان قد عبر عن قلقه في مؤتمر عقد في باريس في بداية أكتوبر من تضاؤل أعداد المسيحيين في بلدان الشرق الأوسط بسبب الهجرة. وخلال المؤتمر دعا البابا بنديكت القساوسة الكاثوليك في بلدان الشرق الأوسط لتقديم مقترحات للمحافظة على وجود المجتمعات المسيحية في هذه البلدان وتعزيز سبل العيش المشترك مع المجتمعات المسلمة في هذه البلدان. وحث المشاركون في المؤتمر المسيحيين على عدم بيع منازلهم حتى وإن أرغموا على تركها والرحيل عنها لضمان بقاء موطئ قدم لهم ولأبنائهم في حالة العودة لديارهم. لكن دعوات البابا قد لا تجد آذانا صاغية عند العديد من المسيحيين العراقيين الذين باتوا أمام خيارين إما البقاء ومواجهة خطر الموت أو الهجرة والرحيل عن بلد مازال يعاني من دائرة العنف ومازالت قوات الأمن فيه تبدو عاجزة عن إيقاف خطر المسلحين رغم حملات اعتقال المشتبه بهم الواسعة. وقالت سوزان «بتنا واثقين انه لم يعد للمسيحيين مكان وفرصة للعيش في العراق». وأضافت وقد امتلأت عيناها بالدموع «لا أحد يهتم لحالنا. البابا يقول لنا أنتم المسيحيين العراقيين ابقوا ببلدكم ولا تغادروه وهو يعيش آمنا ولا يدري ما هي حالنا... كذلك السياسيون المسيحيون همهم الحفاظ على مصالحهم لا مصالحنا». وتضاءل عدد المسيحيين في العراق بسبب الهجرة منذ الغزو الذي قادته القوات الأمريكية عام 2003 . وزادت وتيرة الهجرة مع تصاعد حدة الصراع الطائفي الذي بلغ ذروته في عامي 2006 و2007 . ورغم انحسار الصراع والعمليات المسلحة لاتزال العديد من المحافظات العراقية وبالذات بغداد تشهد حتى الآن وبشكل شبه يومي عمليات مسلحة يذهب ضحيتها الكثيرون. وتشير إحصائيات إلى أن تعداد المسيحيين في العراق قبل الغزو كان يقدر بمليون ونصف المليون وبات الآن نحو 850 ألف نسمة أي ما نسبته ثلاثة بالمائة من عدد السكان الذي يقدر حاليا بثلاثين مليون نسمة. وكان رئيس الإقليم الكردي مسعود البرزاني قد أعلن بعد الهجوم على كنيسة سيدة النجاة ومع ازدياد معدلات هجرة العوائل المسيحية إلى الإقليم الكردي عن ترحيب الإقليم بالمسيحيين في وقت طالب فيه مسؤولون غربيون السلطات العراقية بالعمل على توفير الأمن لهم. لكن ترحيب الزعيم الكردي لم يكن كافيا لمداواة جراح الآلاف ممن هاجروا ولم يتمكنوا من مواجهة تكاليف العيش في الإقليم الكردي. وأرغم ارتفاع الأسعار -وبخاصة أسعار إيجارات المنازل- العديد من الأسر إلى اللجوء إلى الكنائس والعيش ولو بشكل مؤقت. واضطرت كنيسة مار يوسف بمدينة السليمانية إلى تحويل جزء من باحتها وقاعة التعازي فيها إلى مكان لإيواء عشرات النازحين حتى تحول المكان إلى ما يشبه ردهة في مستشفى تتراص فيه الأسرة الحديدية جنبا إلى جنب. ولجأت العوائل إلى وضع قطع من القماش على حبال كي تفصل بينها وبين العوائل الأخرى. وقال هاول خيزقي مشو رئيس جمعية الثقافة الكلدانية في السليمانية ورئيس لجنة استقبال النازحين بكنيسة مار يوسف «ما يقرب من 90 عائلة تسكن الآن في الكنيسة وفي مقر جمعية الثقافة الكلدنية بالمدينة وهي تعيش في ظروف صعبة». وأضاف «أصبحنا نشعر نحن المسيحيين باليأس والإحباط لما وصل إليه الأمر وطريقة التعامل معنا من قتل وخطف وتهديد بالرحيل». وقالت يونيا قريا نيسان «جئت مع زوجي وابني وابنتي للاستقرار في أربيل منذ شهر تقريبا ومازلنا نسكن هنا مع عائلة من أصدقائنا. لا نعرف ماذا سنفعل. إيجار المساكن هنا مرتفع كثيرا مقارنة ببغداد». وأضافت «لا نريد أن نعود إلى بغداد. نريد أن ننهي وجودنا في بغداد وننتقل للعيش بشكل دائم هنا في أربيل لكن الأسعار مرتفعة. لا نعرف ماذا نفعل».