هناك في الأعالي في غموض الأعالي البعيدة وجد العائدون أيامَهم بكاملها أيّامهم التي خلّفوها وراءهم وذهبوا نحو المدنِ والأنهارِ التي شربوا منها ثمالةَ النسيان. وجدوها تنتظرُ مثل وعولٍ ذاهلة جريحةٍ على حافّة أوديةٍ جفّت منذ قرون *** تحمله رائحة القهوة نحو الأقاصي تحمله الذكرياتُ التي تهبُّ كالغربيّ» في ظهيرةٍ قائظةٍ ثمة صيف سحيق على الأبواب العقاعق بدأت بالظهور على الأشجار طالع النخل يوغل في الذرى السامقة للريح ملتقطاً تباشيرَ الرطب كما يلتقط العاشقُ ذكرياتِه المبعثرةَ على الطُرقات. *** الأحلام التي يكتظ بها نومنا هي دليلنا الناصع إلى عالم الأموات حيث الوجوه الملفّعة بالسِّر والهدوء تطفح من سديم بحرٍ مائج وتصافحنا بما يشبه الأخوّةَ نفسها التي عرفناها في الماضي ينبثق الكلامُ من فم الغائب بما يشبه العتابَ، متلاشياً في الغبار ومن غير التفاتةٍ إلى الوراء كتلك التي أعادتْ «بوريدس» إلى الجحيم، تتقاطر الوجوه هاذيةً كطيور تسبح في صفرةٍ شفقيّة تاركةً أرواحَنا تضطربُ على قارعة السرير. *** اليباس يزحف على كل شيء على الأفئدة والعيون على اليد التي تشقّقت أصابعُها قبل أن تصل إلى الورقة الورقة البيضاء الأكثر بياضاً من الجليد على سفحها ترتجف ذئابٌ جائعةٌ متذكرةً ماضيها حين كانت الجزيرةُ أنهاراً من ثلجٍ وماء *** البراكين الخامدة توقظها الذكرى فتنفجرُ على ذلك الشكل الفريد جمال اللهب ذكرى حياة سحيقة ذهب الماضي يلمع في جدول بركان *** تتآخى البراكين في باطن الأرض كآلهة بابليّة عاشقة. هادئة مسالمة كسول تتثاءب على سرير غيمها الخاص تداعب أطراف بعضها لاهيةً تضحك وتحلم حتى يحين موعد الحصاد الغامض بدافع نشوةٍ أو انتقام *** بهدوء ترمي البراكين شباكها في قعر المحيط لتصطاد قِرش الطوفان الغاضب ذاك القادم من عصور الوحشيّة الحنون. *** ينام القرش في حضن البراكين محاطاً بحشود الذاكرة البعيدة مشمولاً بدفء السلالة العميق *** البراكين ليست احتكاك صفيحة بأخرى إنها الحنين العارم للأرض إلى السماء التفاتة الأم المذعورة إلى أبنائها الجنود ترجمان الأشواق وعلّة الوجود الأولى *** سقراط حين حاصرته الدهماء كما هي عادتها في كل الأزمان قَذَف نفسه في فوهة الجمال الحارق هدأتْ روحُه واستراح *** أيتها المرأة الجميلة يا ملاك الحب لستِ أكثر جمالاً من سقوط نيزكٍ أو إشراقة بركان *** صوت البراكين في الليل اللاتيني هناك في التخوم الكولومبيّة المأهولة بالثورات، تسمعه كرغاء ناقة أضاعت وليدها في مفازات البيداء *** في سوهو لا أستطيع أن أنسى تلك الشجرة التي تلجأ إليها العصافير للمبيت. وسطَ صخب الحيّ الكبير بمكتباته وعاهراته ومطاعِمه بقيامة البشر التائهين في بريّة الله، تلجأ العصافير كل ليلة إلى أمّها الشجرة يتقدمها ضجيجُها الحاني ومشرَّدون قدِموا من كل جهات العالم، متدثّرين في خِضمِّ الزجاجات الفارغةِ، بسماء الشجرة. هامش: مقاطع من قصيدة طويلة