خص الأديب المغربي محمد صوف فضاء رمضان لبيان اليوم، بالنص الكامل لروايته الجديدة «أورام موروثة»، التي لم يسبق نشرها. ندرجها، ها هنا، ضمن حلقات، على امتداد الشهر الفضيل.. وهي حلقات حافلة بالإثارة والتشويق والمتعة. ------------------------------------------------------------------------ وللأديب محمد صوف إصدارات عديدة، في الإبداع القصصي والروائي، وكذا في مجال الترجمة، كما له اهتمام بكتابة السيناريو، وبالنقد السينمائي. ومن بين عناوين إصداراته: رحال ولد المكي (رواية)، هنا طاح الريال (مجموعة قصصية)، أبناء قابيل (مجموعة قصصية)، يد الوزير (رواية)، الرهان(رواية). *** أغلق مصطفى العصوي دفاتره .أغلق النافذة. أغلق الباب. نزل السلم .الطرق إلى بيت إستر أخذه من شارع إلى شارع عبر مشية متراخية .خيالات تفضي به إلى خيالات . استولى عليه شعور بأن الحياة لم تعد تريده .لا يدري هل هو نادم على ما فعل . كان يكفي لحادث عارض خارج عن توقعاته أن يقذف باقتناعه بكل ما يفعل إلى نوع من الندم . لم يعد مقتنعا بشيء. استقبلته إستر بابتسامة عريضة .قرأت الدوار الذي يعيشه و حاولت طمأنته - لا تخش شيئا .لك أصدقاء في كل الدوائر.لا يوجد شخص واحد لا أفضال لك عليه . من اليسير جدا أن تنجز عقد زواج يحمل التاريخ الذي تريده أنت . أنت أدرى بهذه الأمور .كاميليا قضية ثانوية . والصفقات الأهم تسير على ما يرام. لم الانزعاج إذن ؟ لم أعد أجسر على الوقوف أمام المرآة لأراني .أصبحت لا أطيقني . استغربت إستر . - كل هذا من أجل امرأة عدت إلى البيت ولم تجدها؟؟؟ لم تفهم ولن تفهم . عقلها حافل بالحسابات والصفقات والأرقام والوساطات . لن تفهم أن الرجة التي يعيشها مصدرها داخله. - لن تفهمي يا إستر. استغربت أكثر . - كيف لن أفهم يا رجل و أنا مديرة أعمالك كلها والراعية الأولى لصفقاتك المشبوهة منها قبل الشرعية . إيراداتك أعرف نبعها ومصبها كرر - هذه المرة الأمر يختلف .ولن تفهمي أطلقت ضحكة عالية و تمادت في عرض قدراتها عليه . و في لحظة وجد نفسه يضيق درعا بثرثرتها و نهض دون أن ينبس بكلمة وغادر بيتها . لا بد أن أحمل آثامي كلها . عاد إلى بيته . أغلق النوافذ والأبواب وتمدد على السرير صامتا . لم يكن يسمع غير أنفاسه . أحس بالدموع تنساب هادئة من عينيه. لم يبك في حياته قط. إحساس عنيف بالحزن . أجهش بالبكاء .انتحب.تمادى في الانتحاب . هل تغفر له كاميليا أوزاره ؟ هل إذا سعى إلى رضاها سيجعلها تحبه كما تحب الزوجة زوجها ؟ أسئلة ضمن أخرى راودت انتحابه. أعدك أن أعرف كيف أعاملك و أن أكفر عن كل ما ارتكبته من خطايا في حقك . كل شروطك سأنفذها .بحذافيرها . وبين انتحاب وآخر تعود إليه صورتها. صورته وهو يمنح شاهد العدل إكرامية تسيل اللعاب . عادت إليه صورة شاهد العدل و هو يقول له – لا عليك لن تعرف أبدا.والأمر بين يديك إذا شئت أن تتزوجها شرعا وتسوي الوضع . إشارة واحدة منك تكفي . أنا وجهاز القضاء في خدمتك. صورته و هو يضحك شامتا. عادت إليه صورة كاميليا وهي تقول له . لقد بللت جسدي بالعار. ولن أغفر لك . لقد سرقت حقيقتي . نهبتها.جعلتني كائنا دون رائحة ولن أغفر لك . أيامي معك جرح لا يندمل . عادت إليه صورته ضاحكا منها .كان قويا . كان يؤمن بأن ماله والزمن سيجعلان كاميليا تركع تحت قدميه .كم مرة تقيأت اشمئزازا منه . كان يتلذذ وحده كالحيوان ويعود إليه قولها أصبحت أحتقر جسدي بسببك . اشمئز منه رفضه . أكثر من مرة قالت له . أنوثتي هي وجودي فأفقدتنيها أنت . أفقدتني روحي ولا شيء يعوض الروح . هذا القلق الذي يساوره.. كيف يتخلص منه ؟ هذا اليأس من كل شيء الذي يعتريه الآن .. كيف يهرب منه . نهض إلى علبة الأدوية و أخرج قرصا منوما .يريد أن يقتل السوسة التي تنخر نومه . كان ينشد الخلاص من نفسه بأي ثمن . جاءه رنين الهاتف ثم صوت محمد يحادثه عن مشروعه مع مروان. أنصت إليه ثم أنهى المكالمة . تعجب محمد من رد فعل مصطفى العصوي .. كيف لهذا الذي كان يتهافت على عقد الصفقة مع مروان يصبح متهاونا دون سبب بين . وقرر أن يتوقف عن التوسط في القضية فمروان راشد و العصوي أرشد . اهدأ يا محمد .. كان يحتسي قهوة المساء . نهض وأدى ثمن الفنجان ثم غادر المقهى نحو كشك الجرائد . اقتنى جريدة وعاد أدراجه إلى البيت.سيمنح نفسه إجازة و يخرج من هذه الشرنقة التي زج به داخلها شيء اسمه الصداقة .على الصفحة الأولى صورة لمروان.ابتسم للصورة .. يا هذا الرجل الذي يحشد الكلمات ويقذف بالقصائد أحيانا والقصص أخرى. ويتطلع إلى أن لا يثقل نفسه بشيء بأن لا يملك شيئا وبأن يسير إلى الله عبر ممر يعبق بالزهور . شعر بالبرد وتلفف بمعطفه و أسرع نحو بيته . كان قد قرر أن يخرج في اليوم الموالي إلى نزهة في ضواحي المدينة وحيدا. مروان يقول له دائما ..إذا أردت أن تتنزه في الضاحية فافعل ذلك وحيدا . لأن الأصدقاء بصخبهم وضحكاتهم و تفاهاتهم حتى يقتلون قدسية الصمت الآن يدرك أن مروان على حق.. كلما خرج إلى نزهة مع أصدقائه كانوا يضحكون دون سبب. لم يدر كيف وجد نفسه يدخل في هذه التداعيات . هل أصابته لوثة مروان؟ في البيت أفرد الصفحة الأولى و شرع يقرأ مقال صديقه أسفل الصفحة . خواطر عن الحياة. عن هذا العالم الصاخب دوما و عن حكامه الذين يعيشون داخل رقعة من الشطرنج يحاول الذكي أن يخضع الأذكى .. و أدرج قصة رئيس الدولة الذي كان يبعث بأعوانه إلى المطار لتلقي جريدة مختصة في الأبراج تصدر في الخارج . هذا الذي يخضع أمة بجنوده وترسانته وأعوانه يخضع لقارئة أبراج أجنبية . وعبرها يرى غده و لربما على ضوئها يصدر قرارات تتحكم في مصير بلد . كان المقال ساخرا بمرارة . أحس أن صديقه يعيش مخاضا ما. لعله عبر ما كتب ينزل بالسوط على نفسه ساعيا إلى تحويله إلى جرح كبير لاسيما عندما قرر في نهاية المقال أن الإنسان لا يشقى بعقله دائما .ولا بقلبه دائما و أنه دائم الحيرة بينهما فكيف إذن يستطيع أن يقرر من معه الحق القلب أم العقل في هذا الخضم و في قلب هذا العالم المخيف نختبر قدراتنا على الاحتمال . رأى الجريدة أمامه حزمة من الأعصاب . وضعها جانبا . و غفا.