شهدت المكتبة الوطنية بالرباط، مساء الجمعة، تنظيم النسخة الثانية من "ليلة الفلاسفة"، التي يقيمها المعهد الثقافي الفرنسي بكل من الرباط والدار البيضاء، ويشارك فيها فلاسفة ومثقفون من المغرب وفرنسا، فضلا عن حضور مئات الطلبة والشباب والمهتمين، ما يجعل التظاهرة بالفعل لحظة ثقافية وفكرية وتفاعلية رفيعة. مساء الجمعة غصت جنبات المكتبة الوطنية وسط العاصمة بجمهور الشباب والمهتمين بالحوار الثقافي والفكري، وكان المشترك بين كل الذين حضروا هو الانشغال بالفلسفة وبحاجتتا كلنا إلى فهم ما يحدث حوالينا وتبادل الرأي بشأنه. التظاهرة أقيمت ضمن سياق سياسي دولي يطغى عليه الدم والقتل والرعب جراء ما شهدته باريس وبيروت وتونس وغيرها من تفجيرات إرهابية بشعة، ومن ثم كان ضروريا أن يتوجه الرأي والاهتمام إلى قضايا التطرّف والانغلاق والتعصب والإرهاب والأزمات والحروب التي يشهدها العالم اليوم، ثم إلى حاجة الإنسانية اليوم إلى الحوار والتواصل والعقل، أي إلى الفلسفة، لأنها هي التي تستطيع أن تحملنا كي نعرف إلى أين نتجه وإلى وضوح النظر. من المؤكد أن الأعمال الإرهابية الدموية وتواصل الأزمات والحروب السياسية الدينية تتغذى أيضا من فكر وأيديولوجية، بالإضافة إلى أن الدين صار له حضور أقوى في عديد ملابسات ومشكلات عالمنا المعاصر، وخصوصا في الشرق الأوسط، المنطقة الأكثر سخونة واشتعالا في زمننا هذا، ومن ثم بات مفروضا تنمية المواجهة الفكرية والثقافية ضد منظومة القتل والرعب التي يروج له تيار الإرهاب والتطرف، أي أننا في حاجة إلى التفكير العقلي وإلى.. الفلسفة. إن تطوير المواجهة الفكرية والثقافية يكتسب اليوم استعجالية أكبر استحضارا أيضا لما بات يشهده عالم اليوم من تنامي العولمة وسرعة انتشار المعلومة والتطور السريع لوسائل الاتصال ولمواقع التواصل الاجتماعي وللإعلام الفضائي، وكل هذا صار يجسد أدوات وتقنيات، بل وفاعلين جدد، في منظومة العلاقات الدولية المعاصرة، ويفرض أساليب عمل جديدة وواجهات صراع لم تكن حاضرة بقوة من قبل، أي أن المقاربة الأمنية لم تعد وحدها كافية، والمواجهات المسلحة لم تعد تكفي هي أيضا لوحدها، وإنما بات أساسيا الانخراط في المواجهات الفكرية والثقافية، وفي امتلاك سلاح الإعلام والتواصل (صحافة، تلفزيون وأنترنيت وسينما وغيرها..)، وفي إنجاح الإصلاح الديني، وفي تعزيز الحريات والتعددية وتطوير الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية والديمقراطية، وفي إنماء الوعي الثقافي لدى الشباب وتطوير التعليم وتربية الشعوب على إعمال العقل والتفكير النقدي، أي على الإقبال على الفلسفة والانشغال بها وتطوير تدريسها. في مختلف تفاصيل ما أوردناه أعلاه يبدو جليا كم نحن اليوم في حاجة إلى الفلسفة، كما يتضح أيضا كم كان خطأ كبيرا أن يتراجع الدرس الفلسفي في بلادنا ولدى باقي الدول العربية، ومن هنا فقد كانت تظاهرة المعهد الثقافي الفرنسي بالرباط مساء الجمعة مهمة لحثنا جميعا على التفكير والتأمل، كما أنها كانت مبهرة من حيث الإقبال الشبابي والطلابي. الاحتفاء بالفلسفة هو احتفاء بالعقل... الاحتفاء بالفلسفة هو دعوة لجعل بلادنا وشعبنا يعيدان الارتباط بالفلسفة ومعانقة التفكير الحر والعقلاني ومحاربة التطرّف والانغلاق.