غيب الموت أول أمس المفكر المغربي محمد عابد الجابري، وخلف رحيله أسى كبيرا وسط عائلته وأسرته السياسية وفي الوسط الثقافي والفكري المغربي والعربي. وبغض النظر عن كل الاختلافات الفكرية التي كانت للكثيرين مع اجتهادات الراحل،وفي نفس الوقت التقدير الكبير الذي كان لها عند آخرين في المغرب وخارجه، فان الجابري لم يكن اسما عابرا في الحقل المعرفي المغربي، ويعتبر واحدا من كبار المثقفين الملتزمين بخيارهم الحزبي والسياسي الواضح ،ومن الأسماء المغربية التي كانت حاضرة بقوة في ساحة السجال الثقافي والفكري العربي. رحيل محمد عابد الجابري اليوم يضع أمامنا عديد قضايا من الواجب الانكباب عليها بالدرس والتحليل: - لقد شغلت كتابات الراحل أكثر من جيل، قراءة وتحليلا و نقدا،سواء ما يتعلق بقضايا التراث أو العقل العربي أو غيرهما، ويعتبر في حقلنا الثقافي واحدا من الكبار الذين يرحلون تباعا،ما يفرض اليوم مساءلة لحضتنا الثقافية والفكرية الحالية عن علاقة مثقفينا ومفكرينا بالأسئلة والقضايا الكبرى، وعن ما تتيحه الساحة الوطنية اليوم من مشاريع فكرية حقيقية... - من جهة ثانية، تميز الجابري بحضوره السياسي والحزبي الكبير، قبل أن يختار الابتعاد، وفي هذا الجانب من شخصيته يحضر أيضا المثقف الذي لم تنقطع الثقافة لديه عن السياسة، ولم يكن المثقف فيه عاريا أو أعزل من الانشغال السياسي، ما يجعلنا اليوم نكرر الكلام عن علاقة مثقفينا بالسؤال السياسي الوطني، وحضورهم في قضايا وانشغالات الناس والبلاد. المثقفون ينتجون الأفكار، نعم، لكن أيضا يصنعون القيم ويؤطرون الفعل، ومن هنا تحتاج السياسة عندنا اليوم إلى الثقافة والى المثقفين من ذوي الانشغالات الحقيقية والأسئلة الكبرى والواضحة. - الجابري كان كذلك رجل تعليم، وعبر مختلف أسلاك التربية، إضافة إلى التأليف، ودرس علي يديه آلاف التلاميذ و الطلبة والباحثين، ويجعلنا هذا المسار نستحضر الأدوار الطلائعية التي كانت دائما لعدد من أساتذة الجامعات والثانويات في نشر التنوير وتعزيز القراءة والانفتاح وثقافة العقل لدى الشباب والطلبة. - وبوفاة الجابري تحضر إلى الأذهان أيضا المجلات الثقافية والفكرية التي كانت تزخر بها الساحة المغربية في الماضي، ومثلت منابر لعمق التفكير ولإنضاج الأسئلة الكبرى والتحولات الأساسية في المجتمع. رحيل الجابري، بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع أطروحاته الفكرية، يستدعي انتباه المغاربة اليوم إلى واقعنا الثقافي والفكري، والى ما تنتجه جامعاتنا من نخب وخريجين وثقافة، والى الأدوار المطلوبة من مثقفينا، والى ما تنتجه السياسة والثقافة معا عندنا من معاني وقيم و...أسئلة. الرحيل يطرح الأسئلة... الأسئلة تحمل حرقتها ووجوديتها إلى جيل بكامله...