مرت المرأة في المجتمعات الأولى بتحديات مختلفة، وتعرضت لمواجهات شرسة مع الطبيعة وتبدلاتها، ومع ضواري الغابات والأعاصير والطوفان، إضافة إلى تحديات الغزو من التجمعات البشرية الأخرى التي تهاجم المستوطنات من أجل الماء والطعام، وترسخت في تكوينها النفسي مشاعر متناقضة بين أن تصمد وتتحدّى أو تمتثل للخوف والشعور بعدم الأمان، وبين أن تمنح من ذاتها للصغار والكبار، وبين أن تلتفت إلى تنمية هذه الذات وتطويرها وتعزيز طاقاتها الخلاقة. تفيدنا بحوث علم النفس التحليلي والدراسات الأنثروبولوجية أن المرأة تمتلك في ما تمتلك من قدرات أنثوية لتجديد الحياة على الأرض، قدرة الحدس الثمينة التي تنشط لديها وتقود خياراتها سواء كانت حرة الفكر أو خاضعة للقسر والإرغام العائلي والمجتمعي، هذه القدرة الثمينة قد يحوزها بعض الرجال العرفانيين، أو ذوي الرؤى من الذين خبروا حالات الغوص في الأعماق الروحانية، ومروا بتجارب نفسية مريرة أو كابدوا خبرات أوجاع قاسية، فتلمسوا شذرات من المكونات السرية للنفس الإنسانية. تعترف كثير من النساء بفقدانهن لهذه القدرة الموروثة من الأم البرية الأولى التي عاشت في الكهوف والمغاور والغابات، وتقرّ بعض النساء بامتلاكهن للبديهة والحدس البري الوحشي الذي فقدته البشرية في مسيرتها الحضارية، ويماثل هذا الحدس الكرة السحرية الكاشفة عن الأسرار والخبايا والحقائق المموّهة، وهو الذي بقي لدى بعض النساء من جداتهن ساكنات الكهوف، والنساء الأمازونيات والصيادات والعرافات والكاهنات الرائيات. تستخدم المرأة ذات الحدس والتي لم تشذب قواها الروحية في المدارس التلقينية والتربية البيتية الصارمة، جميع الحواس إلى جانب العقل للتعرف إلى حقيقة الأشياء والأسرار والأمور الخفية، وتصل بالتدريب والممارسة المستمرة إلى سبر أغوار الأفكار فتغذي حياتها بما تقطفه من خلاصات تجاربها واكتشافاتها. ويعتمد أفراد الأسرة على قدرات المرأة المعطاء بصفتها الأمومية والأنثوية الصرفة، ويتشبث بها الجميع آباء وأزواجا وأبناء وإخوة ويحولون بينها وبين ممارسة وجودها الشخصي، ككائن مستقل له أحلامه ورغباته المستقلة التي قد تتعارض مع رغباتهم وأحلامهم، فتنصاع معظم النساء المانحات إلى ما يفرضه وضع العائلة والمجتمع انصياعا ينطوي على رفض مكبوت وإحساس بالمرارة والخسران، فتصاب أعداد هائلة من النساء في المجتمعات التقليدية خاصة -بحالات مرضية نفسية وعضوية تتفاقم بتفاقم القسر والحرمان، فالمرأة الأم المانحة- لا تحيا الأحلام التي وعدتها بها الحياة وهيأتها لها الطبيعة والنزوعات الإنسانية المشروعة، فما الذي تفعله النساء ليقاومن انهياراتهن المحتومة؟ تواجه بعضهن الأمر بالغوص في أحلام تعويضية، أو تنتابهن كوابيس يجابهن فيها التحديات الكبرى والمطاردات من القوى القامعة، تضعهن الكوابيس في مآزق لاختبار قدراتهن: سقوط من مرتفع أو طيران في فضاء أو مواجهة مع وحوش، غرق، موت، إبحار في الظلمات والضباب، ودخول أنفاق مرعبة، والبحث عن مخرج من ممرات ملتوية مروعة، بينما تستسلم الأخريات لمصائرهن خاصة، بعد أن يهجرهن أولئك الأبناء الذين تعلقوا بهن، فعندما نضجوا واكتمل تكوينهم غادروا الأم لتغوص في وحشة عالمها الخاوي. لا تستسلم النساء البارعات الخلّاقات إلى هذا المصير الموحش، بل يوظفن الحدس والمخيلة وينتجن لأنفسهن مسارات تنأى بهن عن الوحشة، ويشكلن ملامح حياة تنتمي إلى إيقاعات جديدة تتناسب مع تحديات العمر والنضج، فتقوم المرأة بتنظيف بيتها الروحي من الأحقاد والمخاوف والمشاعر السلبية.