تتسم العلاقات القائمة بين بلدان المغرب العربي، كتكتل إقليمي، وحلف الناتو بعدم التوازن وغياب الأساس المتين الذي من شأنه أن يجعلها تبلغ مصاف الشراكات الاستراتيجية التي تقوم بين التكتلات الإقليمية على أساس الندية والمصالح المتبادلة. شكل متّزن من العلاقات يبدو أنّه مازال غائبا ومحكوما عليه بالفشل في ظلّ تفكك بلدان المغرب العربي وعدم تبلور الوعي الكافي بضرورة توحيد الصفوف من أجل التصدي للأخطار المحدقة، وعلى رأسها الإرهاب. تتصف إستراتيجية الحلف الأطلسي تجاه صدّ الحركات الإسلامية الجهادية وتنامي تأثير الجريمة المنظمة التي تقودها شبكات التهريب في المغرب العربي ودول ساحل الصحراء بمحدودية نجاعتها، فضلا عن كونها متغيرة ومتقلبة وغير واضحة. حيث أنّ استيلاء الجماعات الإسلامية على أسلحة ترسانة عسكرية ضخمة من المخازن الليبية، وتحولها إلى شبكات تهريب تملك مصادر تمويل ذاتية، دفعت الأممالمتحدة إلى الاعتراف بأن نحو 40 بالمئة من المخدرات الصلبة أصبحت تمر عبر هذه المنطقة، فضلا عن كون 28 بالمئة من المخدرات التي تمت مصادرتها في أوروبا كان مصدرها منطقة الساحل والصحراء، وقد قدّرت قيمتها بأكثر من مليار ونصف المليار دولار. وبالإضافة إلى ذلك هنالك فقر مُدقع في ظلّ غياب سياسة تنموية، ووجود حدود شاسعة تعاني من فراغ أمني واسع النطاق في المنطقة، ولا يبدو إلى حدّ الآن أنّ دول الحلف المطلة على المتوسط تفكّر في بلورة موقف منسجم وواضح في التعامل مع هذه المصاعب التي تعانيها بلدان الجنوب، وكذلك مع تداعيات ثورات ما سمي ب"الربيع العربي"، إذا استثنينا اتفاقات عامة وضبابية حول مكافحة الإرهاب الدولي وتأمين وصول النفط والغاز إلى الأسواق الغربية، وكذلك السعي للحصول على بعض التسهيلات العسكرية. وحتى الآن، ما زالت الأوضاع على حالها، رغم تطور الأحداث في ليبيا ومالي وشمال نيجيريا، حيث تزداد خطورة هذه المعضلة وما يترتب عنها من تداعيات جمّة، نتيجة تعدد أبعادها وتشابكها بعد أن امتدت أورامها كسرطان مزمن يستعصي القضاء عليه والتخلص منه. وقد أصبحت منطقة الساحل تهدد شمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء بعدما كانت جسرا للثقافات ورابطا حضاريا بين الحضارات العربية والأوروبية والأفريقية، لكن انفلات الوضع الأمني الحالي وتكالب التدخلات الخارجية بفعل الصراع على الثروات الطبيعية كالنفط والغاز (ليبيا، الجزائر، نيجيريا) وقابلية التّصعيد والتمدّد في ظلّ توترات قد تعرفها تونسوالجزائر والنيجر على حدودها، جعل من نقاط قوتها، نقاط ضعفها كذلك، وخاصة بعد أن أصبحت دول الساحل والصحراء أوكارا للإرهاب العابر للدول ومسرحا لكل أصناف الجريمة المنظمة وتهريب البشر. مناولة استراتيجية أم شراكة حقيقية مثّلت قضية الأمن في السنوات الأخيرة دافعا للعديد من التحركات والاستراتيجيات التي أثمرت عن بعض الاتفاقيات التي أعلن عنها الحلف الأطلسي لاحتواء خطر ظاهرة الإرهاب والجريمة المنظمة منذ عام 1991، حيث تمّ تحديد إستراتيجية جديدة تُؤكد على الرّغبة في تعزيز السلم والتعاون مع دول جنوب المتوسط والاعتراف بأهمية دول المغرب العربي في الحفاظ على أمن دول الحلف الأطلسي على قاعدة الشراكة نظرا للقرب الجغرافي، حيث تتماس أوروبا مع شمال أفريقيا، وتجعل أمن المنطقة مرتبطا أشد الارتباط بحوض بحر الأبيض المتوسط. ومن ثمة، جاء إعلان مبادرة "الحوار المتوسطي" في عام 1994 الذي يضم دول المغرب العربي ومصر والأردن وإسرائيل، والذي ما لبث أن تلاه برنامج آخر للتعاون على إثر اجتماع مؤتمر الحلف في عام 2004، لكي تنضم إليه دول مجلس التعاون الخليجي تحت مسمى مبادرة إسطنبول، مما يجعل من مبادرة "الحوار المتوسطي" و"مبادرة إسطنبول" أبرز ما يمكن أن يجسد إستراتيجية الحلف في المغرب العربي والشرق الأوسط، وذلك من أجل تسهيل عملية التواصل وإرساء مناخ ثقة مشترك للتعاون. وعلى مستوى السياسة الواقعية للحلف في المتوسط، تم تبني سياسة تعاون حذرة تأخذ بعين الاعتبار الجوانب المتنوعة والمتناقضة للعلاقات بين الشركاء المتوسطيين أنفسهم، وخاصة بين إسرائيل والدول العربية والعلاقات الصعبة بين الجزائر والمغرب، حيث وضعت أولوية التعاون بين كل بلد معني من دول الجنوب على حدة والحلف ككل، ثم تطورت إلى إشراك هذا البلد أو ذاك بين الفينة والأخرى في اجتماعات أوسع تضم (الحلف +7)، مما يجعل كل شريك يقرر مستوى التعاون الذي يرغب فيه والمجالات التي يود تطويرها مع الحلف الأطلسي، لكن بوضعها تحت سقف التعاون الثنائي حصريا ودون بلوغها مستوى الشراكة الجماعية وفي ظل غياب أسس بناء مشترك للقضايا الأمنية العالقة. فضلا عن التجاذب الحاصل مع مبادرات أخرى موجودة ك"اتفاقية برشلونة للاتحاد الأوروبي" و"سيرورة السلام في الشرق الأوسط" و"حوار مجموعة 5+5"، و"مبادرة المؤتمر الأمني والتعاون في المتوسط" و"المبادرة الأوروبية للجوار" التي أعقبت بمبادرة "استجابة جديدة لجوار متغير" في عام 2011، ثم مبادرة "منظمة الأمن والتعاون في أوروبا"، كما قامت الولاياتالمتحدة الأميركية منفردة بإطلاق برنامج "بان ساحل" في عام 2002 (يهتم بمالي وموريتانيا والنيجر وتشاد)، وتم توسيعه في عام 2009 لكي يشمل تونسوالجزائرونيجيريا، ثم أطلقت أخيرا في عام 2013 مبادرة لتشكيل قوة تدخل سريع في شمال أفريقيا مكونة من قوات بحرية مسنودة بتدخل جوي تنطلق من قاعدة في إيطاليا. ورغم تعدّد المبادرات الأمنية لم تشهد أي معضلة أمنية في المتوسط انفراجا ملحوظا، بل تشهد المنطقة تهديدا متزايدا يصب في سياق تفتيت كيانات الدول وينذر بإعادة رسم الخرائط والحدود. وفي ضوء تعاظم معضلة الأمن وتعدّد أسبابها، تضطر كل دولة في جنوب المتوسط إلى التكيف مع دوافع الحلف الأطلسي وغايات مبادراته المعلنة والخفية، ممّا ينجم عنه تشتّت للجهود في ظلّ غياب إستراتيجية شاملة، ناهيك عن التناقض في المواقف والأولويات أحيانا، ممّا يؤثر بشكل واضح في موقف هذه الدولة أو تلك بسبب عدم تقاطع المصالح بشكل إيجابي والصراع المستمر بين العديد من القوى الدولية التقليدية على مناطق النفوذ. ضرورة وحدة الصف المغاربي يتعين فهم التعاون بين حلف الناتو وبلدان شمال أفريقيا في ظلّ ضعف سيرورة الاندماج بين دول المغرب العربي وانعدام أيّ استراتيجية ترتكز على "الاعتماد المتبادل" تستطيع من خلالها التحرك كفاعل مستقل على الساحة الدولية، وتمكنها من مخاطبة الحلف كقطب إقليمي له القدرة على تحديد مصالحه وأهدافه بمشاركة كافة أعضائه. لذلك، يتضح أن الدول المشاركة في "الحوار المتوسطي" الذي يرعاه الحلف الأطلسي لا يتم التعامل معها كأعضاء في الحلف. غير أنّ هذا التقارب على مستوى التعاون العسكري والأمني، يطرح التساؤل حول المصالح الإستراتيجية والمختلفة لدول الحلف في المنطقة، مما يجعل من مبادرة "الحوار المتوسطي" مجرد أداة للتحكم في الأخطار الٌإقليمية (إرهاب، نضوب الطاقة، أسلحة دمار شامل، تهريب وجريمة منظمة) التي تلقي بثقلها على أمن الحلف، وقد ظهر قصور هذه السياسة في الحالة الليبية وما لحقها من تداعيات. ولم يعد خافيا أنّ دول المغرب العربي، قد تصاعدت لديها نفقات الأسلحة وتغلفت سياستها الخارجية بسباق لافت نحو التسلح، علاوة على كونها تنظر إلى الحلف الأطلسي كمزود خدمات رئيسي واستجلاب امتيازات جديدة، يقدم ما تحتاجه من حاجيات عسكرية وأمنية، وحيث تم التركيز على هذا التعاون نظرا لإمكانية الحلف وتميزه عن سواه في هذا الباب. وتكمن المصلحة المتوخاة من هذا التعاون في المساعدة على حماية السيادة الوطنية واحترام الاستقلال الوطني وتأمين سلامة الحدود. الأمر الذي يجعل من الحلف الأطلسي شاشة سياسية لتوثيق العلاقات مع الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة الأميركية، مما يجعل علاقات المغرب العربي مع الحلف تعدّ مؤشرا على هشاشة الأمن الإقليمي، في ظل غياب استراتيجية إقليمية مشتركة، وفي ظل مواجهة كل دولة لمجمل التحديات بطريقة انفرادية، حيث يطرح النقاش الاستراتيجي في بوتقة مصالح كل دولة على حدة، وعلى مستوى ظرفي تغيب فيه رؤية إقليمية مشتركة تجمع بين سياساتها الخارجية والأمنية والعسكرية على الأمد المتوسط والطويل، مما يجعلها مجبرة دائما على البحث في الخارج على شراكة أمنية تضع في أولوياتها مصلحة أنظمتها قبل كل شيء، وهو ما يضع على المحك مدى انسجام خليط من المبادرات المنعزلة عن بعضها البعض، مما يؤدي إلى انقسام في التوجهات والأهداف المرجوة ويجعل بؤر المشاكل عصية عن الحل. ولذلك يطرح سؤال مفاده؛ هل تحتاج دول المغرب العربي إلى فاعل خارجي لكي تعمل بطريقة جماعية فيما بينها؟ وهل يستطيع الحلف أن يدفع هذه الدول إلى التعاون من أجل بناء صرح إقليمي قادر على رفع التحديات الأمنية في ظل الأخطار المحدقة؟ ولدى محاولة الإجابة عن هذه الاستفهامات يتجلى أنّ القوى الغربية على ما يبدو تدفع حقيقة في اتّجاه عدم اكتمال المسار المغاربي باندماجه أمنيا واقتصاديا، حيث أنّ ربط دوله بمبادرات أوروبية وأطلسية دون اهتمام بالتعاون جنوب-جنوب، هو في حقيقة الأمر مسار آخر للحيلولة دون بنائه وتركه في وضعية تبعية أمنية دائمة مع الشمال. هذا في الوقت الذي يسعى فيه الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي إلى تفضيل مقاربة ثنائية مع دول جنوب المتوسط، تخلق منافسة مستعرة بين دوله للتقرب منها. وهو ما يذكي حمأة المنافسة ويباعد بينها، ويمكن أن يؤدي إلى فجوة إستراتيجية في المغرب العربي، لأن مجمل الأخطار التي تحيط بدوله، هي في الواقع داخلية ومتشابهة ولا تستدعي إضافة مشاكل إقليمية فرعية أخرى أو حسابات وأجندات خارجية لها. علاوة على ذلك، ثمّة تأثير آخر يتجلّى في عدم قدرة دوله على تجاوز خلافاتها، وهو ما ينزع عن المغرب العربي صبغة منظومة إقليمية منسجمة. ويكمن السؤال المهم في تحديد الاتجاهات المستقبلية للمنطقة؛ هل تقوم مكافحة التنظيمات الإرهابية بمنهج جزئي، بالضرورة، على استخدام الأدوات العسكرية والتصعيد في حجم التدخل الخارجي وإنشاء علاقات ثنائية يقررها الحلف مع كل دولة بشكل انفرادي فحسب، أم يجب أن يكون هناك منهج متكامل يربط الأبعاد العسكرية بالاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية والتنموية لكي تنجح عملية المكافحة، وتكون المقاربة دقيقة وشاملة. إذ يتعين التنبيه أن السيناريو الأفضل يمكن أن يتضمن تكوين مجموعة عربية فاعلة تضم مصر ومجلس التعاون الخليجي ودول المغرب العربي والأردن، بحيث تتم صياغة رؤية لمعالجة الأزمات الحالية وكل الأخطار الآتية من العراق وسوريا ودول ساحل الصحراء للحيلولة دون أن تظل المنطقة العربية تنزف في معركة طويلة الأمد شرقا وغربا. وإذا ما لزم الأمر التعاون مع الحلف الأطلسي، فيجب وضع اتجاهات استراتيجية واضحة المعالم للعمل، وتوضيح حدوده، وشروطه وغاياته. وإذا كانت دول حلف الناتو منسجمة وتعبر عن رؤية مصالح إستراتيجية مشتركة، فمن الواضح أن بلدان المغرب العربي، لا تجمع بينها أي رؤية إستراتيجية، كما أن الاختلافات المغاربية واضحة ولا يجمعها قاسم واحد في مشاركتها، وهو ما يجعل كل دولة مغاربية تتحرك بمعزل عن الدول الأخرى. ولكن رغم ذلك هنالك افتراض أساسي في هذه المعادلة، مفاده أن يدفع حلف الناتو بلدان المغرب العربي إلى تغيير الوجه القائم للاتحاد المغاربي من خلال مسارين: المسار الأول أن يوضح لبلدانه بأنّ التقارب الفردي مع استراتيجيته، لا يشكل بديلا عن مقاربة إقليمية مغاربية مشتركة وجماعية، ومن ثمة، مراجعة سياسته وعدم تفضيل المقاربة الأحادية التي تشجع على الانقسام بين دوله، مما يجعل من أفق بناء الاتحاد المغاربي أفقا محبذا ومركزيا. وبالتالي عدم اللعب على أوتار حبل المنافسة التي تضيق أوتار اندماج دوله. أمّا المسار الثاني فيتعلق بتحفيز وتشجيع الدول المغاربية لكي تجعل من الشفافية العسكرية والسياسية هدفا مشتركا بفضل تشجيع تواصل مكثف ومستمر بينها. وفي سياق هذه الاحتمالات، يتعيّن على الحلف أولا وقبل كلّ شيء أن يقوم بثلاث خطوات؛ أوّلها أن يتخلى عن سياسة "فرق تسد" التي تشجع عليها سياسة التعاون الثنائي المفضلة إلى حد الآن، واللعب على التمايزات الحاصلة في كل نظام سياسي. وهو ما من شأنه أن يضع حدا للمنافسة المنفلتة العقال، وهو ما يمكِّن أن يؤثر كذلك بشكل إيجابي في السياسة الأمنية والعسكرية لدول المغرب العربي، وثانيها عمل دول الحلف الأطلسي على صون استقرار المغرب العربي كضرورة إستراتيجية لصيانة الأمن الإقليمي. أمّا ثالثا، فإذا أراد الحلف الأطلسي أن يؤثر إيجابيا في قضاياه المصيرية، فلا يمكنه التنصل من تبعات تدخله في ليبيا وترك الأمور تسير من سوء إلى أسوأ في ظل الصراع الدامي القائم وتكلفته الباهظة. *باحث جامعي بمركز أنظمة الفكر المعاصر، جامعة السوربون