خص الأديب المغربي محمد صوف فضاء رمضان لبيان اليوم، بالنص الكامل لروايته الجديدة «أورام موروثة»، التي لم يسبق نشرها. ندرجها، ها هنا، ضمن حلقات، على امتداد الشهر الفضيل.. وهي حلقات حافلة بالإثارة والتشويق والمتعة. وللأديب محمد صوف إصدارات عديدة، في الإبداع القصصي والروائي، وكذا في مجال الترجمة، كما له اهتمام بكتابة السيناريو، وبالنقد السينمائي. ومن بين عناوين إصداراته: رحال ولد المكي (رواية)، هنا طاح الريال (مجموعة قصصية)، أبناء قابيل (مجموعة قصصية)، يد الوزير (رواية)، الرهان(رواية). *** أود أن أعيش ولكني أتدحرج.هكذا فكر مروان و هو يدخل بيته. كنت غبيا عندما اعتقدت أني أعيش الحياة . هي التي تعيشني . جاءته رسالة هاتفية من كاميليا يقول له إنها ضاقت درعا بمصطفى العصوي . أحس لأول مرة بالرغبة في القتل إذا كان القتل سيخلصها منه. رن هذه المرة هاتف البيت . كان أحد عمال المصنع. حاول أن يتذكره لكنه لم يفلح إلا أن العامل قدم نفسه باسم يحيى . تبين له أن الرجل على درجة من الوعي و حدد معه ميعادا قبل أن يتصل بمصطفى العصوي. - نحن أيضا لنا كرامتنا وكبرياؤنا ونريد أن نغتصب حقنا بيدنا وأن نأخذه رغما عنه . كانت المقهى تغص بالزبائن .لم يعتد مروان على هذا الصخب .لكنه أحب اللحظة. -نحن نعمل لحساب منافق تافه .لسانه يقطر كذبا .و لا نريدك أن تخضع لأهوائه . نحن نقدرك يا سيد مروان العاشق لا نريدك بعيدا عنا تطل علينا من فوق .نريدك خارجا من أحشائنا . قرأ يحيى في عيني مروان مشروع قبول للمبدأ. - ماذا علي أن أفعل في نظركم ؟ - الأمر في متناولك. بكلمات بسيطة قص المشروع عليه .لا تقبل عرضه.ارفضه بضراوة إن اقتضى الأمر ضراوة. اطلب مهلة للتفكير. خلال هذه المدة ستتطلع على خطتنا التي ترفض له الفوز. لقد مارس بهتانه عليك زمنا . ويجب أن يتوقف زحف المرارة التي عانينا منها طويلا. هذا الرجل يدوسنا ويدوس مشاعرنا. كان يحيى يتكلم ومروان يصغي . وبين الفينة والأخرى تتراءى له كاميليا في كامل بهائها فيضيع تركيزه . لكنه يعرف الموضوع. وحديث يحيى المسترسل الطويل الحافل بالتكرار يمنحه فسحة للتفكير فيها . في رسائلها الهاتفية منذ أن ذهبت إلى بيت زوجها. نحن منفصلان منذ البدء قالت مرة. نتلامس بالجسد فقط. أتصدق عليه مكرهة . أحيانا أتلذذ بحرمانه و عذابه . قالت مرة أخرى لا يمكن أن استمر مع هذا الثقيل المعتم الجامد اللزج . كل نظرة منه إلي رصاصة في الروح . ومرة حدثته عن صديقة لها تدعى نانا وعن حكمتها وقالت له : -نانا تقول إن كل حب عظيم قسوة وألم . و هي تحبنا لأننا نقاسي بصدق. باختصار لن يوافق على الصفقة التي سيعرضها عليه مصطفى العصوي . قد يقترح عليه هو أن يتخلى عن حصصها لفائدته . هذا ما فهم من عرض يحيى . والتقيا . اختار مصطفى للقاء ملهى ليليا.كانت الراقصة تتمايل وفق إيقاع مقدمة موسيقية لأغنية ‘'فاتت جنبنا ‘' لعبد الحليم حافظ.كان مروان يعشق هذه المقدمة ويسمعها باستمرار إلى أن حفظها عن ظهر قلب .تساءل متى سيدخل مصطفى في الموضوع. صب له الويسكي في الكأس. قال: - في صحة صداقتنا . رفع مروان الكأس وألقى بابتسامة باهتة و حمل الكأس إلى شفتيه دون أن يرشف منها شيئا . وأحس برغبة في الضحك .رآهما رسما ساخرا . أضاف مصطفى العصوي - صداقتنا ستدوم رغم انفصال المصالح . خلاصة القول قال مصطفى ما عنده.واحتفظ مروان بالصمت.وعندما حثه على الكلام رد : - دعني أفكر بالأمر. وعاد إلى ذهنه أصدقاؤه الوهميون الذين يلجأ إليهم في المواقف الحاسمة وكلما وجد نفسه في مواجهة قرار عسير . كازانتزاكيس شتاينبك . نجيب محفوظ دوستويفسكي وطاغور .. لا شك أنه سيجد الجواب عند أحدهم . و أفسح للأمل مجالا. لم يفهم مصطفى العصوي صمت مروان . قال : -الأمر لا يحتاج إلى تفكير يا مروان . ستأخذ أضعاف قيمة حصصك . ستضع المال تحت خدمتك أكثر . ستصبح أغنى. تذكر أنك في منعطف حاسم الآن. أجاب مروان . - الحياة دائما منعطف حاسم يا صديقي .لا الآن وحسب بل و في كل ثانية من عمرك . بدا الضيق على وجه مصطفى العصوي .شعر بدفقة من غضب تغمره. - تفلسف كما تشاء .خذ وقتك و فكر بالأمر جيدا . أريد جوابا في أقرب الآجال. رأى مروان شريكه سخيفا قاتما ثقيل الدم جشعا . وفكر في كاميليا و كيف تتحمل هذه الكتلة من الفراغ في فراشها .. كيف تتحمل أن تعيش اغتصابا لا يتوقف . ماذا بوسعها أن تفعل ؟ إنه ذوق والدها واختباره وذوق والدها يعيث فيها شبقا كل ليلة. واختيار والدها يثير لديها الغثيان كل لحظة . آه لو تعرف كاميليا لذة التمرد .. في الخارج استنشق هواء لذيذا . ووجد نفسه يردد أغنية كان يحبها منذ طفولته عادت إليه كلماتها دفعة واحدة . وفي الغد وجد نفسه أمام مسئول نقابي ويحي. قدم يحيى مروان لرئيسه. - مروان العاشق .شريك صاحبنا أمام المسئول لم يستطع مروان إدراك الإحساس الذي غمره آنذاك . مد يده إليه و صافحه ثم خامره شعور بدأ يتضح . لعله أمام قائد يتزعم المظاهرات والإضرابات .لعله أمام رئيس للعمال وممثلي العمال و اتحادات أي شيء وكل شيء. ملامح الزعامة تتبدى لحظة بعد أخرى. نظرة المسئول فاحصة .لا تطرف.فيخجل مروان ويغض الطرف لاحقه بقوله : - إليك الخطة يا سيد العاشق . وعرض عليه الخطة كلها . رأى فيها كاميليا .رأي عينيها الساحرتين .سمع صوتها الأجش المتكتم والحافل بالعذوبة . رأى صوابه مفقودا كلما تطلعت إليه . ومفقودا مرتين كلما تطلع إليها وكأنه لم يسمع من الخطة سوى أن مصطفى العصوي سينهزم. ما يهمه من الهزيمة هو تخليص كاميليا من براثينه. وقال نعم للمسئول.ابتسم المسئول و صافحه وانصرف. عندما عاد إلى بيته كانت زوجته تنتظره شاحبة قلقة.تذكر أنه تأخر.اعتذر لها ثم خلع ثيابه واندس في فراشه يرى كاميليا في فراش الآخر. يرفض أن يطلق العنان لخياله لكن الصور تتلاحق. وأشياء حامية تتدفق في عروقه ولهب يحرق منه الدماغ وشيء في دمه يغلي ويؤرقه . وفي الصباح نسي لقاءه مع المسئول . كانت زوجته تنظف البيت خرج دون أن ينبس ببنت شفة . جلس في السيارة . وأخرج هاتفه المحمول وحرر رسالة هاتفية إليها يسألها عن حالها .ثم لاحظ أن الرسالة لم تصل. هاتفها مغلق إذن . معناه أنها معه أي أنه يحاصرها تنهد و أدار محرك السيارة . راج بباله أن يهاتفه و أن يطلب لقاءه ليبعده عنها وليبلغه قراره الأخير . خشي أن يكون هاتفه هو الآخر غير مشغل . ومع ذلك حاول .فجاءه صوت شريكه . شكره على المكالمة وحدد معه ميعادا في أحد فنادق المدينة. و وجد نفسه يفكر في هذه المدينة المتقلبة التي لا تعرف كيف تلبس أكثر مما تعرف كيف تتعرى . لا تعرف كيف تخلص أكثر مما تعرف كيف تخون. هذه المدينة لا تعرف الحب ولا حتى الكراهية .مدينة لعوب تمارس الرقص على الأعصاب وتتلذذ به.