بين الإنتاج الثقافي والفني، بصفة خاصة، والإنتاج الخطابي أيا كان نوعه، والموقف منهما في واقعنا العربي، فجوات لا تنبئ عن حضور التفاعل والتواصل بينهما، بل إن ردود الفعل القاسية والعنيفة تؤكد غياب إمكانات الحوار الذي يمكن أن يسهم في تطوير العلاقات بين الإنتاج والتلقي، وجعل المواقف أكثر نضجا وتعبيرا عن رقي حضاري واجتماعي. إن صورا مثل المقاطعة والمنع وإلصاق التهم والتهديد بالتصفية الجسدية والاعتقال بسبب الاختلاف في الرأي وما شابهها، ليست سوى تجليات للفجوة الثقافية، بين مكونات المجتمع. وفي مختلف اللحظات التي تمارس فيها تلك الصور، يتبين مع الزمن أنها كانت تعبيرا عن انفعال لحظي سرعان ما يتلاشى مع الزمن، لكن منطق الفجوة يظل قائما ويمكن أن يمارس بين الفينة والأخرى، كلما تم التجاذب بين الإنتاج والتلقي متخذا أشكالا متعددة. كانت الفجوة في مختلف الصور التي أشرنا إلى بعضها تحدث نتيجة التمايز بين منطق السلطة الحاكمة وخطاب الآخر المعارض. ولا تبرز مقاطعة الآخر ومنعه من مواصلة كلامه للتعبير عن وجهة نظره المخالفة فقط، بل أيضا وأساسا من خلال قطع أي إمكانية عنه لأداء صوته أو إسماعه، ثم كان منع أي خطاب من التداول أو حجبه، سواء كان في شكل كتاب أو منشور، ما دام ينظر إليه على أنه «يهدد» الأمن العام. ونتذكر في السبعينيات كيف كانت المراقبة على الكتب في المطارات والرقابة على الصحافة قبل توزيعها، صارمة وقوية. أما الاعتقال والتصفية الجسدية والأحكام الغيابية بالإعدام، فكان كل ذلك التعبير الأجلى عن تلك الفجوة التي عمقتها السلطة من باب اعتبار أي خطاب غير ما تنتجه غير قابل للتداول ولا صالح لأن يكون موضوعا للتواصل. منع في المغرب، مرة، «الخبز الحافي» و»كان وأخواتها» و»موسم الهجرة إلى الشمال»، كما حجبت «أولاد حارتنا» وحوكمت الليالي، في مصر، على سبيل التمثيل. ثم سرعان ما رفع ذلك المنع وزال ذاك الحجب بزوال بعض المبررات التي كانت زمان الإقدام على ذلك. تحدثنا عن سنوات الرصاص وما جرى خلالها من تجاوزات في ممارسة رد الفعل، وصرنا نتحدث الآن عن المصالحة الوطنية، فإذا الذي كنا نعتقله ونصادر كتابه بالأمس القريب، نستوزره أو نبعثه في سفارة اليوم. لكن هل يعني ذلك أنه تم تجاوز «الفجوة»، وتحقق ردمها للانتقال إلى حقبة أخرى، بتنا نمارس فيها الفعل الحضاري في تدبير الاختلاف، ونتجاوز ردود الفعل السريعة والقاسية؟ أم أن فجوات أخرى يتم خلقها للأسباب التي نتوهم أننا نتجاوزها؟ إذا كانت الفجوة وليدة ممارسة الحاكم في مرحلة ما قبل الربيع العربي، صرنا نجد أنفسنا الآن أمام فجوات لا حصر لها تمارسها كل المكونات الاجتماعية والثقافية والسياسية في ما بينها، ولم تبق حكرا على السلطة المركزية فقط. وصارت الوسائط الاجتماعية الرقمية تمارس من خلالها فجوات «جديدة»، تتدخل فيها عدة أطراف تسهم في تعميقها وإدامتها، متخذة صورا جديدة. تبرز بعض صور هذه الفجوة من خلال الانشقاقات داخل الأحزاب والنقابات والجمعيات، وفي عدم تحمل الرأي المخالف أو المعارض. فالتهديد بالقتل بسبب كلمة أو سرد نكتة، والمطالبة بالمنع من أجل خطاب، أو الإقالة بسبب ممارسة، وتجييش الخطابات التي تنشر المواقف الجاهزة والمتسرعة، عبر استغلال تلك الوسائط، كل ذلك ينم ضيق خاطر تجاه الاختلاف ورأي الآخر. فهل يتم بهذه «المواقف» تجاوز ردود الفعل التي مارستها السلطة التي كانت تنعت بأنها ديكتاتورية؟ أم أننا صرنا أمام «ديكتاتوريات» جديدة، تحت مسميات لا حصر لها، تمارس ما كانت تقوم به السلطة؟ إن ردود الفعل والمواقف التي تعمق هذه الفجوات، هي أيضا تعبير عن الأفعال والخطابات التي ننتجها. ولذلك نجد الإنتاج والتلقي، معا، يلتقيان في المقصد نفسه. فالخطاب المتشنج، أو المبني على السب والقذف، والتنابز بالألقاب، والسعي إلى التشويه والنيل من الآخر، لا يمكنه إلا أن يؤدي إلى مقابله. فتتعمق الفجوات التي ليست سوى تعبير دقيق عن عدم تحمل الآخر. وبدل أن يكون الجدال بالتي هي أحسن، يكون بالتي هي أسوأ وأقبح وأفظع. من السهولة بمكان إقامة الحواجز، وتعميق الفجوات. لكن من الصعوبة بمكان إقامة الجسور بين مختلف الحساسيات والتصورات. وبين إقامة الحواجز، وإقامة الجسور عملية هدم وبناء. وواضح أن الحواجز ليست سوى هدم للعلاقات الممكنة. وأن إقامة الجسور بناء وتجاوز لضيق الرؤى والتمثلات. فهل يمكننا من خلال تبني منطق السلطة التي كان يرفضها الجميع، أن نبني علاقات جديدة على أنقاض ما خلفته تلك السلطة في الواقع؟ أم أننا نتخذ صورة السلطة القديمة، ونعوضها بأخرى، لا تختلف عنها في العمق؟ فلا تزداد الفجوات إلا اتساعا. إن زرع بذور الكراهية بين الطوائف والأعراق والمذاهب والجماعات، ومختلف التصورات والاتجاهات ليس سوى استعادة لصورة الديكتاتور، لكن بأسوأ مما في تلك الصورة. إن الاقتتال اللفظي وبحد السلاح ليس سوى تعبير عن إنتاج خطابات وتلقيها بصورة تعمق الفجوات. فمتى نرقى بالإنتاج والتلقي إلى ردم الهوات، وبناء الجسور؟ إنها مسؤولية الجلاد الضحية. *عن الصفحة الاجتماعية للكاتب