حول موضوع «الرحلة العربية المعاصرة:هواجس الحداثة والتحديث»، نظم مختبر السرديات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك بالدار البيضاء مؤخرا بقاعة الندوات عبد الواحد خيري، ندوة أصر على إهداء أشغالها إلى الباحث والمؤرخ المغربي عبد الهادي التازي، نظرا لما له من فضل على الثقافة العربية من خلال أعماله المتنوعة ذات التأثير المتعدد في مجالات تعبيرية شتى، وبخاصة إسهامه في إبراز دور الرحلة الحضاري عبر التاريخ. أبحاث قاربت نصوصا رحلية في جلسة أولى لأدباء ينتمون إلى نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ونصوصا في الجلسة الثانية لأدباء من نهاية القرن العشرين وبدايات القرن الحالي: رفاعة رافع الطهطاوي، مصطفى عبد الرازق، علي باشا، محمد الحجوي، عبد الهادي التازي، علي كنعان، شاكر اللعيبي، رضوى عاشور، تحسين يقين، محمد الحارثي . الدهشة الأولى افتتحت الندوة بالجلسة الأولى التي انطلقت أشغالها التي ترأسها كريم بجيت بورقة سليمان حجاجي بعنوان»صورة الآخر في تخليص الإبريز من أخبار باريز لرفاعة الطهطاوي»، وقد وضح فيها أن الطهطاوي حاول في رحلته رصد صورة الآخر المتفوق في مقابل صورة الأنا المتخلف، وأرجع سبب تفوق الآخر(الغربي) إلى مقومات من قبيل سهولة اللغة(الفرنسية)، وحب المعرفة والعلم، والتدبير السياسي وفصل السلط، فالعدالة والمساواة. وبعد ذلك رصد صورة الشرق المتخلف كأنه بصدد القيام بنقد ذاتي، فهو من خلال وصفه وتصويره للآخر يسعى إلى زرع روح التجديد لدى العرب والابتعاد ما أمكن عن مساوئ التقليد؛ إن الطهطاوي ببساطة سعى إلى المقارنة بين جمال باريز وسحرها وقبح واتساخ ميادين العرب(مصر). وقدم محمد جليد ورقة عنونها «بالأنا والآخر في الرحلة الأمريكية: تجليات مزدوجة للأمير محمد علي باشا»، حاول فيها الباحث أن يرصد تجليات الصورة التي كونها محمد علي باشا عن الآخر الأمريكي، وذلك من خلال محور صورة الآخر التي تأسست وفق منظور الاندهاش والانبهار والإعجاب بما حققه الآخر في كل المجالات، ووفق منظور النقد والتعبير عن النفور والاستنكار من خلال مغالاة الأمريكيين في الجانب المادي،وانتقاد عنصرية الآخر الأمريكي تجاه باقي الأجناس الأخرى(السود والهنود..). ومن خلال انحلال الطابع الروحي لدى الأمريكيين. وفي محور صورة الذات ثمن محمد علي باشا جوانبها الروحية والإنسانية وانتقد تخلفها المادي، وذلك حسب منظور الاعتزاز بالانتماء والهوية الوطنية، والتشبث باللغة والابتعاد عن الانغماس في الملذات ،دون إغفال منظور الدعوة إلى التحديث والتنوير، ونقد سوء فهم الحرية والنظرة الاستشراقية إلى الذات، والتنبيه إلى التشرذم. وباختصار فإن تجليات صورة الآخر والذات في رحلة علي باشا، تجليات صورة مزدوجة تجمع بين الانبهار والانتقاد للذات وللآخر على حد سواء. وتناول المبارك الغروسي في ورقته «الرحلة إلى التسامح من خلال مذكرات مسافر لمصطفى عبد الرازق» فكرة التسامح التي كانت غائبة عن الرحلة العربية عموما والتي تتميز بنوع من التعصب، وبخاصة، في الجوانب السياسية والدينية، فالباحث أكد أن الرحالة مصطفى عبد الرازق حاول من خلال رحلته أن يبين صورة الآخر(الشعب الإنجليزي) ليس عبر تصورات مسبقة جاهزة، بل من خلال الرحلة التي تتيح للإنسان تنسيب أحكامه. ففي هذه الرحلة ليس هناك نقد بل تمجيد للجوانب الأخلاقية لدى الآخر ونقد للذات،وانتهى الباحث إلى أن الرحلة تلح على إنهاء ما بين الأديان من خصومة لكي يحل التوحد والالتحام. أما محمد أنقار فقدم ورقة بعنوان»صورة الآخر والذات في الرحلة الأوربية لمحمد الحجوي»عبر فيها على أن تحليل صورة الآخر والذات في هذه الرحلة تتطلب تحليل بعض الصور من قبيل التركيز على زمن الرحلة ومكانها، فرحلة الحجوي كانت ذات وجهين؛رحلة رسمية في وجهتها إلى فرنسا،ورحلة سياحية في وجهتها إلى انجلترا. وأكد الباحث أن الرحلة تشمل موضوعات عدة منها السياسية والدينية والاجتماعية، وأنها ترصد صورة الآخر بين الانبهار والرفض؛ إنه انبهار ودهشة من جمال باريز صاحبه وعي بدعائم التقدم الغربي من علم وأخذ بأسبابه ونظام (انبهار بصورة الآخر الفرنسي والإنجليزي المنظم). مع رفض لبعض مظاهر الحياة الأوربية، وبالضبط ما يتعلق بالجوانب الأخلاقية والدينية من تفسخ واستهتار أخلاقي وتحرر غير مقيد بالدين. وفي نهاية ورقته أكد الباحث على أن صورة الآخر تهيمن على هذه الرحلة، غير أن صورة الذات أيضا تحضر، فالحجوي تبنى رؤية إصلاحية لمجتمعه من خلال أخذه من منابع التقدم لدى الآخر لتطبيقها في بلده، إنه أجرى مقارنة بين صورة الآخر وصورة الذات (تقدم فرنسا/تأخر المغرب، نظام السير في لندن/نظام السير في فاس، بقر فرنسا/بقر المغرب..). وركز عبد الله بديع في ورقته التي اختار لها عنوان «أشكال ودلالات حضور المرأة في رحلتي الأولى إلى فرنسا» لعبد الهادي التازي، على أن هذه الرحلة يمكن مقاربتها من خلال مداخل عدة: (الكتابة التاريخية،المذكرات،اليوميات،فضاء المدن..). ثم أكد على أن المرأة حظيت بحضور لافت ومميز في هذه الرحلة، وذلك بشكل استثنائي مقارنة بالنصوص الرحلية السابقة، وأن هذا الحضور اتسم بالغنى والتعدد والتنوع، إما الاعتبار الاجتماعي أو الاعتبار المهني أو الاعتبار السني.. وفي الأخير أبرز الباحث أن هذا الحضور يعكس دلالات قوية بالإيمان الراسخ لدى الرحالة بالمرأة وبدورها وإنجازاتها،إنه موقف إيجابي للمؤلف تجاه المرأة. واختتمت هذه الجلسة الأولى التي وسمت»بالدهشة الأولى(نهاية القرن19 وبداية القرن20)»بمناقشة حول أهم الأفكار والقضايا التي تناولها المتدخلون. الدهشة الثانية أما الجلسة الثانية، الدهشة الثانية(نهاية القرن 20وبداية القرن21) فقد نسقت أشغالها مليكة الزاهيدي؛ قدم فيها أحمد السعيدي ورقة بعنوان «فلسطين من الداخل في برتقالة واحدة تكفي لتحسين يقين» تطرق فيها إلى الإشكال التجنيسي الذي تطرحه هذه الرحلة، وتساءل عن مدى صحة اعتبار هذه الرحلة رحلة داخلية، لأن أطوارها تجري داخل فلسطين، لكنها انتقال من أماكن في فلسطين غير مستعمرة إلى أماكن مستعمرة. ثم حاول الباحث رصد أهم تنقلات الرحالة من مدينة إلى أخرى من مدينة إلى أخرى وقدم لكل مدينة عنوانا دالا، فمن مدينة القدس سلطة المكان والذاكرة والتي شكلت بؤرة الرحلة والتي ينظر إليها الرحالة بتحسر وحزن، إلى مدينة رام الله بين عهدين باعتبارها فضاء مغايرا يكتشف فيها الرحالة صورة الآن وصورة الآخر المستعمر،مرورا بمدينة جنين أو طريق الألم والتي تمثل صورة لمقاومة الآخر،وصولا إلى مدينة أريحا السياحة والعراقة(فضاء أركيولوجي)، فمدينة يافا الحزن والحنين، انتهاء بمدينة حيفا الحلم مقاوما. وخلص الباحث أن الرحالة ليؤكد على أن فلسطين التي زارها ليست فلسطين التي عاشها(فلسطين أخرى مهودة)، وأن الرحالة يعيش ازدواجية في الرؤية بين اغتراب في الداخل والخارج. وقدم عبد الرزاق المصباحي ورقته الموسومة «بالسفر الرامبوي للشاعر في عين وجناح لمحمد الحارثي» بدأها بفكرة أن الرحلة لم تسلم من البنية الشعرية رغم أنها سرد، ثم وقف مع العنوان لتعزيز هذه الفرضية التي انطلق منها، فالعنوان يشير إلى التفاعل بين السرد والشعر من خلال كلمتي عين وجناح. هذا إضافة إلى تلك المقتبسات الشعرية التي يوردها الرحالة باستمرار. وأكد الباحث على أن الرحلة تركز على الصراع بين المركز والهامش، فالرحالة يفضل الهامش لأريحيته رغم أنه يواجه فيه سكانه الاستغلال المادي والمعنوي، عكس المركز. فالرحالة اتجه إلى الكاريبي والأندلس بدل العواصم المعروفة. وفي الأخير أكد الباحث على أن الرحلة تعكس ائتلافا وجوديا بين السرد والشعر. وتطرق محمد محي الدين في ورقته «تقاطعات الذاتي والقومي في رحلة «حسرة الياقوت في حصار بيروت» لشاكر لعيبي، إلى أن هذه النصوص الرحلية الجديدة لها أسئلتها المغايرة ومواضعها الجديدة، منها ارتباط الذاتي بالقومي، فالرحلة ترصد الخيبة العربية وكيفية تعامل العرب مع الحصار(حصار بيروت)، وأكد الباحث على أن الذاتي في الرحلة يتجسد من خلال كون صاحب الرحلة شاعرا ما جعل الرحلة مسجوعة تتميز بلغة كثيفة الرموز، مما يطرح إشكالا تجنيسيا (توظيف الشعر للحكي في الرحلة)، وأن القومي في الرحلة مفضوح انطلاقا من العنوان والذي تعكسه رحلة ياقوت في حصار بيروت/فلسطين،لأنها قضية قومية. وركز الباحث في هذه الرحلة أيضا على مكوناتها البنائية من خلال توظيفها للأسلبة والسخرية وتقنية القناع والأنواع المتخللة. أما سالم الفايدة فقدم ورقة بعنوان «الرحلة المعاصرة: رضوى عاشور ترسم وعيها الشقي»، قسمها إلى ثلاثة محاور، أكد فيها أن رحلة «أيام طالبة مصرية في أمريكا» عبارة عن رحلة معاصرة شكلت أفقا مختلفا وجديدا للتعبير، وأنها تطرح سؤال التجنيس (الوعي بالكتابة وقلق التجنيس)، فرضوى عاشور كانت تكتب هذا النص بوعي الرحالة بأفق وتوظيف جديد، ثم من خلال الوعي في الكتابة حيث تقدم الرحلة مسيرة امرأة شرقية تحدت التقاليد لتعبر وحيدة إلى أمريكا. واختتمت الجلسة بورقة أيوب الريحماني «المشروع الإصلاحي في الرحلة نحو اليابان لعلي كنعان»، أكد فيها الباحث أن هذه الرحلة جددت على مستوى الموضوع، وأنها رحلة تتراوح بين الحقيقة والحلم وذلك نتيجة اندهاش الرحالة بهذا البلد الذي اعتبره ملاذا وواحة للأحلام وسحر وجمال الفضاء المرتحل إليه. وأنهى الباحث ورقته بعرض المشروع الإصلاحي للرحالة الذي يقوم على الأسس والمرتكزات التي جعلت اليابان قوية، من بينها الاهتمام بالإنسان باعتباره محرك المجتمع، والاهتمام بالجانب التعليمي لكونه قاعدة التطور والتقدم، ثم المزج بين الأصيل والمعاصر، فالاهتمام بالعمل والذي عده الرحالة مبالغا فيه لذا انتقده. وبعد نهاية برنامج الجلسة الثانية، دارت مناقشة بين المتدخلين والحضور، تركزت بالأساس حول سؤال التجنيس الذي اعتبره بعض المتدخلين سؤالا خطيرا، لأن الأسئلة دائما ما تتجدد بتجدد بنيات السفر والتداخل ما بين المرجعي والتخييلي والسيري والرحلي. وفي نهاية هذه الندوة الحافلة التي عرفت نقاشا أكاديميا بين مجموع الباحثين، كانت هناك جلسة ختامية ترأسها شعيب حليفي، والذي شكر جميع الحضور مؤكدا أن أهمية هذه الندوة تكمن في أنها مهداة لباحث كبير هو عبد الهادي التازي، ثم موضوع الرحلة وطبيعة النصوص التي تعكس وعي المجتمع والنخبة العربية المثقفة وأحلامها أمام العطب العام. وأشار أيضا إلى المزيد من الدراسات والأبحاث بإشراك باحثين من كافة الحقول المعرفية، كما نوه بمجهودات الشباب الباحثين المشاركين . وقدمت بعض التوصيات التي حثت على ضرورة استمرار مختبر السرديات على هذا النهج، والتعهد بعقد ندوة حول «نظرية الرحلة»، وأخرى حول «المغرب والآخر «، ثم ضرورة تحكيم ونشر كل الأشغال في كتاب، والدعوة إلى إنشاء مجال للتواصل الإلكتروني، فالدعوة إلى إحياء الجمعية المغربية للبحث في الرحلة.