الشاعر العربي محمد الفيتوري في حوار سابق معه الشاعر الراحل محمد الفيتوري، بالرغم من شهرته الواسعة وبالرغم من ذيوع اسمه، لكن قراءه قد لا يعرفون عنه الكثير. وبمقدار ما أدهشت قصيدته قارئها بمقدار ما كانت ترسم له في مخيلته صورة ضبابية له، كأنما أراد التخفي خلف أشعاره دون أن يعلو صوت الراوي ولو لمرة واحدة، في حين أن كل مفردة كتبها تشير إليه. بمناسبة رحيله، ننشر مقتطفات من حوار مطول، كانت قد أجرته معه مجلة «الوطن الثقافي». من أنت أيها الفيتوري؟ أنا الذي ولدت في السودان وتربيت وتفتحت عيوني في مدينة الإسكندرية المصرية، فيها تعلمت وحفظت القرآن، كأي طفل ينتمي إلى أسرة مهاجرة في مصر. ومع ذلك عندما بدأت كتاباتي الشعرية لم أبدأها كما يبدأها أي شاعر. بدأتها بالحنين إلى أفريقيا، بالبكاء على ما كان في الماضي (العبودية) والصراخ في وجه المستعمرين والغزاة والقتلة الذين يوما ما داسوا على هذه الأرض الطيبة، الأرض الأفريقية. واستعبدوا أحرارها. كانت صرخات غير عادية في الشعر العربي، حيث خرجت عن قوالب الغزل وتحولت من التغني بالحبيبة إلى الصراخ في وجه الغزاة. كان هذا هو صوتي، صوت ذلك اليافع، لأن عمري لم يكن قد تجاوز حين ذاك الثانية عشرة تقريبا، كنت قد حفظت القرآن الكريم وقرأت الكثير من الشعر العربي من مكتبة أبي، وتلقيت أسس الثقافة العربية القديمة التي كنا نتعلمها في المعهد الديني بالجامع الأزهر، كنت قد قرأت السيرة النبوية، وبدأت اخرج من قوقعتي واحتك بالآخرين، كطفل صغير يشعر بعقدة النقص لأنه أسود في مجموعة عربية، أنا الذي لم أصرخ وأبكي على ذاتي ولم ألتفت إلى الحصار من حولي، أو أبكي على غربتي، لكنني هتفت وصرخت وبكيت باسم الإنسان الأفريقي الذي أردت أن ينفض عنه الغبار ويتطلع إلى العالم بعيون ملأى بالتحدي والإصرار. أنت أسير معادلة السواد والبياض إذن؟ نعم، السواد والبياض هو أسى مرحلة البدايات، فعندما كنت طفلا وذلك في الأربعينيات، كانت الإسكندرية مدينة البيروسقراطية المصرية، كنت أتحرك في شوارعها وأكاد أكون أنا الأسود وحدي الذي يستطيع أن يتحرك وسط قوم هم من اليسر والبهاء والجمال والبياض. في تلك المرحلة المضببة الآن في ذهني، صرخ محمد الفيتوري الشاعر بعنفوان الإنسان الأفريقي وتمرده وسخطه على ما كان ورغبته في أن يشكل هذا الواقع على نحو أفضل، هل كان لتلك المرأة العجوز (جدتي) فضل في هذا الصراخ، نحن من عائلة ميسورة أبواي مهاجران، تنحدر في أعصابي وشراييني دماء كثيرة، قبائل زنجية وقبائل عربية وقبائل شريفة وأخرى مختلفة، ما الذي جعل هذا الشاب ينتبه إلى هذه النقطة الحساسة في حياة الإنسان المعاصر، هل هي حكمة جدتي العجوز التي اسرت واختطفت رغم انتمائها إلى إحدى أهم القبائل الأفريقية ما بين الجنوب السوداني وغربه وتحديدا منطقة بحر الغزال في قبيلة (القرعان) هل كانت (زهرة) جدتي هي الصوت الذي انبثق من خلالي ليعبر عن آلام الإنسان الأفريقي، كانت ابنة شيخ قبيلة كما حدثتني، وكان أهلها فرسان كما حدثتني أيضا، وكانت صغيرة عمرها تسع سنوات، وخرجت لتأتي بالماء من البئر مع قريناتها، وفجأة وجدت شخصا أسمته بالجلابي، قالت لي: جاء احد (الجلابة) ثم خطفني واردفني وراء ظهره ثم أهداني إلى جدك، قلت لها: من هو جدي؟! قالت لي: جدك السيد علي بن سعيد بن يعقوب الشريف، كان تاجر رقيق، وكان ذلك هو حديثها، عندها شعرت وكأني أقف على صراط ما بين الحرية والعبودية، هذه الجدة مستعبدة، هذا الجد تاجر رقيق، وأنا طفل صغير لا يعرف معنى العبودية ولا معنى الحرية، اعتقد أن هذه السيدة هي التي بذرت هذه البذرة التي لا أقول إنها سوداء وإنما البذرة النارية في روحي، البذرة التي أشعلتني. من الذين شحنوا ذاكرتك؟ كبرت ووجدت نفسي أتطلع إلى نفسي، وكنت قد قرأت لشاعر أنتمى إليه روحيا وعاطفيا هو عنترة بن شداد، قرأت سيرته، كان اسود، كانت أمه جارية، كان جده شداد من شرفاء العرب وفرسانها، لم يعترف أبوه ببنوته، لكن فروسيته فرضت على أبيه أن يعترف به، وأصبح عنترة بن شداد رجل تاريخ ونضال، وقد تأثرت به واتخذته نموذجا في بداية حياتي، وكنت آنذاك ابحث أيضا عن الشعراء السود، فقرأت الإمام العبد وهو شاعر مصري، كان اسود، كما قرأت سحيم عبد بني الحسحاس، وقراءات أخرى متنوعة لشعراء المعلقات والعصور العباسية والأموية والموشحات وكل هذا التراث العميق والمؤثر في حياتنا كمثقفين. عد إلى الذاكرة مجددا؟ استمرت كتاباتي، وفي عام 1955 طبعت ديواني الأول (أغاني أفريقيا) وتواصلت كتاباتي ثم توقفت فترة وجيزة لأني بعد تخرجي من كلية دار العلوم عملت بالصحافة المصرية، كجريدة الأخبار ومجلة آخر ساعة وجريدة الجمهورية، وكان فيها رئيس للدار وقتها هو أنور السادات، فكان المدير العام لدار تحرير الجمهورية وكان يتعاطف معي للوننا ربما لأن أمه أيضا كانت سودانية، فانتدبني من بين جميع زملائي للذهاب إلى السودان وذلك لحضور حفلات استقلال السودان وكان ذلك عام 1956، وسافرت بالفعل ووجدتني أغوص من جديد في ارض السودان الطيبة التي انتمي إليها وينتمي إليها آبائي وأجدادي، وهناك وجدتني ما بين عمالقة السودان الذين رفعوا على أكتافهم ورؤوسهم العالية سقوف الزمن، كنت قريبا جدا ما بين الإمام عبد الرحمن المهدي والسيد اسماعيل الازهري ومحمد احمد محجوب وعبدالله خليل وحسن محجوب ومبارك زروق وحماد توفيق والكوكبة الاخرى التي صنعت مجد السودان واستقلاله بقيت فترة بينهم ثم طلب مني عبدالله خليل رئيس وزراء السودان الاسبق ان اعود مرة اخرى الى السودان بعد الانتهاء من المهمة التي وفدت لها، قال لي نحن بحاجة إليك، فوعدته بذلك، وسافرت إلى القاهرة وبقيت فترة في جريدة الجمهورية ثم قررت العودة إلى السودان، وعينت سكرتير تحرير لجريدة النيل اليومية الناطقة باسم حزب الأمة، وكان رئيس التحرير زين العابدين حسين الشريف، إلى أن قامت ثورة الرئيس ابراهيم عبود مطلع الستينيات وفي ذلك الوقت عاد ايضا من دراسته في الخارج وزارني في مكتبي بجريدة النيل وتوطدت العلاقة بيننا حتى الآن، وكان وزير الاعلام آنذاك طلعت فريد قد طلب مني ان اكون رئيس تحرير مجلة (هنا ام درمان) وتوليت رئاسة تحريرها لمدة اربع سنوات، وكان يعمل معنا محمود مدني وعوض وشي ومحمود وصفي ومحمد عبدالرؤوف عربي، وابوبكر صديق الشريف، وكان مدير الاستعلامات (الاعلام حاليا) قد اخطرني بعد نشر مقال لي انه خارج السياسة التي يريدها وقام بفصلي من (هنا ام درمان) وبقيت بلا عمل مدة طويلة هائما في شوارع الخرطوموام درمان فقررت العودة الى مصر وعملت في اذاعة ركن السودان وفي تلك الفترة كنت قد كتبت ديواني الثاني (عاشق من أفريقيا) ثم الثالث (اذكريني يا أفريقيا) ثم أكملت المسرحية التي بدأتها في السودان وعنوانها (سولارا) وهي مطبوعة، وتزامن ذلك مع زواجي من الممثلة آسيا أم ابني ايهاب، والتي تعرفت عليها طالبة ثم بدأت مشوار التمثيل. بعيدا عن أفريقيا أين ذهبت؟ انتهت مرحلة كتاباتي المتخصصة عن إفريقيا ووجدتني باحثا عن مصدر نبع جديد كي لا أعود ثانية إلى نفس المياه التي ركدت في روحي فبدأت اهتم بالجانب الصوفي والجانب السياسي الثوري خاصة عندما بدأ انهيار حكومة ابراهيم عبود ومجيء الحكومة الوطنية في السودان والصدام الذي حدث بين رئيسها وبين الصادق المهدي رئيس حزب الامة ثم الانقسام الذي حصل في حزب الامة فانضممت إلى جناح الصادق المهدي وعندما أصبح رئيسا للوزراء اختلفنا بعض الشيء حول بعض المواقف وكتبت قصيدتي المشهورة (سقوط دبشليم)، وكنت أقصد بدبشليم الصادق المهدي أما (بيديه) فكنت أنا، ذلك أن العلاقة بيننا كانت وثيقة جدا وكنت أؤمن به كمناضل ورجل مستقبل، ورغم انتقادي للصادق في هذه القصيدة لكنه كان في منتهى الرقي وكان يقرأها بكثير من الرضا، مثلا كنت أقول له: "اكتب عن عصرك/عصر الغضب الميت/عصر الضحك المقهور/عصرك يا مولاي/حيث تركض الخيول في القماقم/وتسكن الغرباء في العمائم/حيث يهب فجأة من ظلمة العصور/الديناصور. وكنت اعني بالديناصور الصادق المهدي نفسه، وكنت أقول له أيضا: سألتني يادبشليم يا أيها الملك الحكيم عن السقوط ذات مرة فإن تكن مازلت مصغيا إلي ها آنذا أقول لك يسقط بعضهم لأنه يرى ولا يرى، ويسقط البعض لأنه يسير القهقرى وشر أنواع السقوط مرضا هو السقوط في الرضا. ثم اضطررت من جديد أن أبقى فترة في القاهرة وتغربت بعد أن قامت ثورة جعفر النميري وحدثت مذبحة عبدالخالق محجوب والشفيع وهي المرحلة التي كتبت فيها قصيدة (قلبي إلى الوطن)، والتي أهديتها إلى عبد الخالق محجوب ورفاقه، وللتاريخ أقول: لم أؤذ من أي حاكم سوداني بالعكس كانوا يقدرون مواقفي واذكر عندما قدمت في محكمة ووقفت أمامهم، لأنهم يريدون أن يقاضوني على هذه القصيدة، فقلت لهم ماذا تريدون؟ قالوا لي: أنت هاجمت الرئيس، قلت لهم لم أهاجم أحدا ولم اذكر في القصيدة رئيسا، إنما تكلمت عن مرحلة عن الكبار الذين حاكموني في هذا العصر، الحقيقة تركوني وشأني وطلبوا مني فقط عدم ذكر اسم الرئيس نميري، مع البقاء في بيتي أربعين يوما، وهنا قررت السفر إلى القاهرة ومن ثم بيروت، وعملت فيها كاتبا بمجلة (الأسبوع العربي) وكان رئيس تحريرها ياسر هواري وفي هذه الفترة كتبت ديواني (أقوال شاهد إثبات) و(ابتسمي حتى تمر الخيل) و(معزوفة لدرويش متجول) وهي غير الدواوين الأخرى، كان يغلب عليها الاتجاه الصوفي. كيف تنظر للمشهد الثقافي العربي الآن؟ أنا لست في موقف الدفاع عن النفس فأنا والآخرون يعرفون أن الحياة الأدبية المعاصرة هي مجموعة من (الشلليات) القائمة على المصالح الشخصية، فهناك من النقاد من لا يكتب عنك إلا إن كنت صديقه، ولكل مبدع معروف جماعته النقدية التي تدافع عنه وتمجد له، فمازالوا يختلفون حول أول من بدأ كتابة الشعر الحديث كتابة حقيقية ومن الذين أسهموا ولا أقول وضعوا أساس القصيدة الحديثة حيث لا يمكن لناقد نزيه أن يقول هنا إن نازك الملائكة ولا السياب ولا البياتي ولا بندر الحيدري هم الذين فعلوا ذلك، رغم أنهم كتبوا في أواخر الأربعينيات، ففي مصر كتب قبل هؤلاء محمود حسن إسماعيل قصيدة النثر وقبله هناك شاعر يتجاهلونه جميعا اسمه (حسين عفيف)، وكتب حوالي سبعة دواوين شعر ما يعرف بقصيدة النثر، وإذا كانت نازك الملائكة هي التي كتب قصيدتها الأولى (الكوليرا) سنة 47 فأنا أقول إنني عندما قرأتها آنذاك وقفت منها موقف المعارض، وفي نفس العام قرأت قصيدة عنوانها (إصرار) وهي اسم الديوان وكانت القصيدة عبارة عن هجوم على الملك فاروق، وكان صاحبها شاعرا هو سكرتير الحزب الشيوعي المصري كمال عبد الحليم وديوانه (إصرار)، كان قد هوجم هجوما شديدا من الدولة نفسها وسجن، هذا الديوان أقول من وجهة نظري انه يتميز بأن بعض قصائده كتبت بالطريقة الكلاسيكية ولكن أغلبها بالطريقة الحديثة (التفعيلية)، وأتساءل الآن لماذا تجوهل هذا الرجل، لماذا تجوهل حسين عفيف الذي وضع الأساس الحقيقي للقصيدة المعاصرة وليس قصيدة التفعيلة فقط، هنا لا يمكن إغفال التأثير الإعلامي وضعفه ورغبته في إرضاء نزوات الناس مهما خالفت الحقائق والمنطق والبكاء على الأشياء التي لا تفيد حركة الوعي الانساني ونحوه. ما الجديد الذي أحدثه الفيتوري على القصيدة؟ لقد كتبت في بداية الخمسينيات وقصيدتي (أحلام أفريقيا) في ديواني (أغاني أفريقيا) عام 1955 مكتوبة بطريقة التفعيلة التي خرجت فيها عن القواعد الكلاسيكية القديمة، لكن ومع ذلك إذا أهملنا هذا الجانب الشكلي فهناك أيضا الجانب الموضوعي، أنا الشاعر العربي الوحيد الذي كتب عن أفريقيا حتى هذه اللحظة، أربعة دواوين شعرية كاملة عن مأساة الإنسان الأسود ونضاله نحو الحرية وتاريخه الذي دمر يوما ما بالعبودية وعن تطلعاته المستقبلية، أنا الشاعر العربي الوحيد الذي كتب عن (نيكروما) و(بن بلا) و(لوممبا) و(مانديلا) ومع ذلك يهمل هؤلاء النقاد هذا الجانب ولا يعيرونه اهتماما، وهذا لا يعنيني لأنني اعرف أن كلامهم أجوف ولن يبقى في التاريخ، ولكن ستبقى الحقيقة في النهاية، ولأني لست صاحب شلة ولا مال ولا نفوذ أعطيه للآخرين ليكتبوا عني فلست بحاجة لهم على الإطلاق، ويكفيني انه كتب في شعري ما لا يقل عن عشرين رسالة دكتوراة، ما بين المغرب والسودان ومصر وليبيا ولبنان، وكتب عني الكثير من النقاد والأصلاء كالدكتور منين موسى وغريد الشيخ، وترجم شعري إلى مختلف اللغات الروسية والألمانية والانكليزية والفرنسية والكردية وفي الصحافة الغربية، أما الحالة الأدبية والشعرية في الوطن العربي فتحكمها العلاقات الشخصية وغياب التقاليد النقدية، فأنا عاصرت آخر النقاد وعاصرت محمد مندور ومحمد الشوباشي وعباس محمود العقاد وزكي مبارك، انتهى هذا الجيل وأتى جيل ليس له علاقة بالنقد الحقيقي وإنما بالصداقات والمنافع الشخصية بين قوسين. ثمة سؤال يشغلك دائما، ما هو؟ أتساءل دائما لماذا بالفعل الحياة الثقافية السودانية تكاد تكون محصورة في نطاقها الضيق فقط، فهناك أسماء بارزة سطعت في العالم العربي قديما وحديثا، مثل محمد احمد محجوب واحمد عبد الحليم اللذين كتبا أول رواية في تاريخ الأدب، هي رواية دنيا التي كتباها معا، هناك أسماء اشتهرت في مجال الفن، مثل خليل فرح وسرور وسيد خليفة ووردي والكابلي، وفي الأدب الطيب صالح والفيتوري ومحيى الدين فارس، وهذه أسماء محدودة ولكنها تمثل طاقة ضوئية باهرة تنبعث من هذه المنطقة (السودان) نحو العالم، تكاد تكون أمامها سدود بدليل أن الوجه الحقيقي للفن السوداني العربي الأفريقي لم يستطع أن يتسرب إلى وجدان ولا فكر الإنسان العربي فالأغنية السودانية غريبة عن أذنه، رغم أنها تمثل مزيجا فريدا للرؤية الأفريقية والأخرى الإسلامية العربية. ++++ رحيل عاشق من إفريقيا بيت الشعر في المغرب ينعي محمد الفيتوري هَا يَدُ المَنون تنتشل اسماً آخر كبيراً في خريطة الشعر العربي المعاصر، الشاعر محمد مفتاح الفيتوري (1936-2015) الذي قُيّض له أن يقيم في بلدنا، في الطّور الأخير من حياته، أزيد من ثلاثين إقامتَه الشعريةَ الصّميمةَ ويَنذر جثمانَه لثراها المضياف؛ وذلك بعد أوديسا الوجود التي عاشها بامتلاء كيانيّ وروحيّ، كما يليق بأيّما شاعر عالي الكعب من طرازه أن يعيشها، مقتلَعاً من سودانه المفقود.. مارّاً بمصره التي رعت قريحته الشعرية الباكرة، الفوّارة.. وما تلا ذلك من محطّاته اللّيبية واللّبنانية والإيطالية.. انتهاءً إلى المغرب، اكتشافِه المتأخّر، لكن المذهل، والذي تعلّق به تلقاءَ جوارحه العروبيّة الأصيلة، بزاخر هواه الإفريقي المكين، وأيضا كما صوفيّ أنيق من معدنه. استراح المحارب الذي حمل عبءَ قارّة برمّتها ذائدًا عن ذاكرتها، تاريخها، و متغنّياً بأشجانها، أوجاعها.. مندّداً بمخازي العبودية الاستعمار و الأبّارتيد، و مفترعاً، بالكلمة والمجاز، سبل استرداد حريّتها، جدارتها، هويّتها المخصوصة لكن الموصولة بجدارة الإنسان و كرامته في مطلقيّتهما. حمل عبئها عبر أعمال شعرية جرّيئة وفارقة، لغة وتخييلا ورؤيا، تنصبّ كلّيةً في الهمّ الإفريقي ومنزاحةً، هكذا، عن المناخ التّعبيري السّائد، ساعتَها، في الشّعرية العربية المعاصرة الذي كانت تمسك بتلابيبه رؤيا تمّوزيةٌ مهمومة بمآسي العالم العربي و تطلّعاته ممّا تعكسه مُتونُ مجايليه و نصوصُهم كبدر شاكر السياب و عبد الوهاب البياتي و شاذل طاقة وأدونيس و يوسف الخال وخليل حاوي و جبرا إبراهيم جبرا و صلاح عبد الصبور..؛ أعمال من قبيل «أغاني إفريقيا»، «عاشق من إفريقيا»، «اذكريني يا إفريقيا»، «أحزان إفريقيا أو سولارا» (مسرحية شعرية)، انتزعت للموضوع الإفريقي مكانه المغيّب في هذه الشّعرية وارتفعت بهواجس عنترة بن شدّاد، سلفه الرمزي ذاك، المبثوثة في قصائده إلى صعيد شاغل مركزي أو، بالحريّ، إلى بؤرة رؤياوية تستجلى فيها محنة شريحة إثنية عريضة وتقوم مقام سند إبداعي دالّ لها وهي تغالب مكبّلات قهر تاريخي وإيديولوجي وثقافي مرير ومركّب وذلك بجريرة سواد البشرة والبدائية والدّونية.. تماما كما تستعيد ذكرى تلك الجدّة السوداء السّحيقة التي انسلّ الشاعر من رحِمها الإفريقية وقايض، بالتالي، حادثةَ استرقاقها، ذاتَ تاريخ عبودي غاشم، بولاء لامشروط لثورة ملايين من أحفادها ضدّ بياض استعماري، متعجرف، غائص في تمركزه الحضاري المدمّر. مات الشاعر الذي رفض، بإصرار، أن تُدرج تجربتُه الشعرية الإفريقية ضمن الأفق الذي ضمّ شعراءَ الزنجية الكبار، كالسينغالي ليوبولد سيدار سنغور والمارتينيكي إيمي سيزير (مبتكر كلمة الزنجية) والغوياني ليون غونتراس داماس..؛ الذين كتبوا باللغة الفرنسية.. تواضعاً أو أنَفةً، لا فرق، لكن من غير أن يُفلح، و كيفَ له ذلك، في نفي دوره الرّائد والنّوعي في استزراع الشّاغل الإفريقي في مُنتسج الشّعرية العربية المعاصرة و جعله أحد مفاصلها التعبيرية اللاّفتة. الرّحمة لمحمد مفتاح الفيتوري.. لسادن إفريقيا وضميرها الشّعري الحيّ.