ذلك الكنز الذي ينتظرنا في قارعة الطريق ذلك الكنز المشترك الذي ينتظرنا علي قارعة الطريق! إنه، أولا وقبل كل شيء، كتاب عن المسرح، وقد حياه ورحب به، عند صدوره في انكلترا، المخرج والمنظر الغني عن التعريف، بيتر بروك، الذي اعتبره واحدا من أهم الشهادات حول عمل الممثل منذ ستانسلافسكي حتي الآن. إن كتاب «في جلد ممثل»، سيرة ذاتية للممثل الإنكليزي سيمون كالو، سواء في السينما أو المسرح. ترجم إلي اللغة الفرنسية بعد عشرين سنة على صدوره في انكلترا. وقد اهتم واحتفل به المسرحيون والسينمائيون الفرنسيون، وأولئك الذين استمروا يشعرون بحاجة ماسة للذهاب إلي المسرح. من أجل قراءة هذا الكتاب بسعادة، لا بد من الاهتمام بالمسرح، وبالتجربة الإنسانية وبسحر وغموض الإبداع الفني. إن صفحات الكتاب تبعث بالحيوية المدهشة، التي تجعلنا نلتهمه مثل الجوعي، وننبهر به حتي لو كنا نجهل أكثر الشخصيات والمسرحيات التي يستحضرها.. إنه يختزل علاقة هذا الرجل مع فنه، مع حماسه، حاجته، مثاليته، ولهفته المستمرة للتعلم، والاكتشاف، وتعرجات مسيرته العملية والشخصية المشوقة، موهبته كراو بارع، أسلوبه الحي والمباشر، مزاجه الذي لا يمكن مقاومته وكذلك ترجمته المشوقة التي لعبت هي الأخري دورا كبيرا في جعله مقروءا بكل متعة ولذة. يتألف الكتاب، من ثلاثة أجزاء، الأول منه، يتحدث عن المسيرة الفنية لسيمون كالو منذ الرسالة التي كتبها إلي لورانس أوليفي الذي دعاه بدوره لممارسة أول عمل له في المسرح – "في عمر الثامنة عشرة كتبت إلي لورانس أوليفي، وقد أجابني برسالة داعيا إياي للالتحاق بالفرقة الوطنية والعمل فيها كبائع تذاكر"- حتي نجاحه الكبير في دور موزارت بمسرحية آماديوس على المسرح الوطني بلندن. الجزء الثاني، عام، ويصف المسيرة العادية لحياة ممثل، المعرضة دائما وأبدا للتهديد من قبل البطالة، والبحث المستمر عن عمل، مرورا بالعديد من مراحل الإنتاج المسرحي. الجزء الثالث، يتناول عشرين سنة من المسيرة الفنية، ويتعرض لقصة حبه مع المسرح حتي السنوات الأخيرة. وهنا وصف جدير بالذكر، للمناخ الذي يخيم علي كواليس واحد من أكبر المسارح اللندنية في ذلك الوقت L'old Vic ، الذي استقر به المسرح الوطني، ومسرح المرميد لبرنارد مايس وكذلك المسرح الذي عمل فيه سيمون كالو فيما بعد، لدفع مصاريف دراسته للمسرح في مركز الدراما. في غضون ذلك الوقت، سنحت له الفرصة، أثناء مهرجان بلفاست، أن يكون مساعدا للممثل الإيرلندي ميكائيل ماكليموار، الذي كان يمثل في عرضه المشهور حول حياة أوسكار وايلد. إن الشاب كالو كان مكلفا بإبلاغ هذا الممثل الكبير بلحظة دخوله إلي خشبة المسرح: "عندما اقتربت اللحظة، طرأ تغير غريب على ميكائيل، الذي قام بسرعة فائقة بمكيجة وجهه مكيجة بسيطة، وارتدي ملابسه.. وجلس أمام المرآة وصار يتفرس بوجهه بلا انقطاع. وبمجرد ما سمع الإعلان عن بدء العرض، وارتفاع الستارة الذي لا بد منه، بدأ يرتجف، وصار العرق يقطر من خلال مساحيق التجميل. تشبث بقوة بالطاولة التي كانت أمامه حدّ أن مفاصل يديه أصبحت كلها بيضاء. في هذه الأثناء، جاء مدير الخشبة لكي يبلغ الممثل بأن الساعة قد أزفت. ميكائيل لوح بيديه نحوي لكي أساعده علي النهوض، قائلا: - خذ بيدي، وقدني، إني لا أرى شيئا هل تفهم؟ مررنا عبر ممر مظلم دامس، وهو يردد: - أيها المسيح، يا ابن مريم العذراء، احميني، أيها المسيح. وصلنا إلي خشبة المسرح، قلت له: - هنا، أمامك ثلاثة مدرجات. - أين ؟ أين ؟ ساعدته على اعتلاء الأولي، ثم الثانية، والثالثة. قبل دخوله الخشبة، تعثر بالستارة القطنية السوداء، ثم فتحها فوجد نفسه أمام الجمهور. في هذا الظلام الدامس، الضوء يعمي، ولكني سمعت تصفيقا حارا، مغذيا، وغزيرا، ومن ثم صوت ميكائيل، الواثق، والرابط الجأش، كما لو أنه كان فوق الخشبة منذ أكثر من ساعة. ذهبت بسرية متناهية لأرى من أمام هذا الشخص المفرط بالحيوية، الذي لم يعد يُعرَف، والذي صار يلعب بالكلمات وبالعواطف والمشاعر، ساحبا جمهوره إلي دائرته السحرية، جارا إياه بفعل سلطة الإغراء إلي عالم مفرط باللياقة، والأفكار، معطيه الانطباع، بأنه يشاركه سرا وحكمة ما". إن هذا المقطع، يتضمن جميع أسباب حبه وغرامه وتعلقه بالمسرح، هذا الحب الذي جعله يدافع بلا توقف عن أفكار لم ينفك عن تطويرها وتشذيبها فيما بعد. ففي هذا الكتاب، سيمون كالو، يشتكي، ويحتج بكل عنفوان على سلطة المخرج وهيمنته في المسرح المعاصر، هذا المخرج، وفقا لكالو، غالبا ما يستعمل المسرحية ولعب الممثل لخدمة رؤيته الشخصية، بدلا من خدمتهما. إن هذا يخنق إبداع الممثل. إنه يشبه الممثل بالمرأة الحامل بل وأكثر أحيانا، وما على المخرج إلا القيام بدور المساعد بهذه الولادة كي يأتي الطفل طبيعيا معافي. فالممثل ذلك الغائب/الحاضر والحاضر/الغائب، في ذات الوقت، يغيب عندما يلبس جلد الشخصية، ويحضر من خلال تجسيده للشخصية معطيا إياها كل كينونته ووجوده الإنساني. أليس الممثل وفقا لعنوان أول محاضرة ألقاها، سيمون كالو: هو نموذج للشرط الإنساني؟. إذن، إن كالو ينادي بترك الممثل حرا في عمله والكف عن تحجيمه برؤي شخصية، يقول: "اذا لم نترك للممثلين الحرية في إعطاء أنفسهم لعملهم، فإننا نميتهم. إن الماكينة، يمكن أن تكون ذات فائدة، ولكن لا تكون أبدا عملا فنيا حيا". إن الجزء الثاني من الكتاب، ولد نتيجة رسالة وجهها سيمون كالو إلي الدراماتورج البريطاني ادوارد بوند، والتي لا يقوم فيها بوصف العمل في عرض من العروض بشكل خاص، وإنما يتناول لحظات خاصة من حياة الممثل: يستعرض تجربة ومعاناة البطالة، ظروف اختبار الفنان التي تجعله في نهاية المطاف يطأطئ الرأس خيبة، يوميات الممثل عندما يمثل دورا في المساء، ويومياته عندما لا يجد فيها عقد عمل، تحضير الدور، القراءة الأولي للدور، التمارين، العرض التمهيدي الذي يسبق العرض، العرض الجيد، ما هو سيء في العرض، وصعوبة التمثيل أمام جمهور صامت، لا يستجيب. ثم يأتي الجزء الثالث، المكتوب ليتحدث عن عشرين سنة قد مرت، ليكون مقلقا، مثيرا، يجعلنا نعتقد، بكل سذاجة أننا بصدد قراءة تسلسل قصصي، وإذا بنا نصطدم باكتشافنا إنسانا سوداويا غير راض، يبوح بعواطفه ومشاعره بنوع من المرارة، يتخذ المسرح كحبيبة له، لا ينفك عن معاتبتها من حين لآخر: "لدي إحساس بأنني أحببت المسرح أكثر مما أحبني". رغم عمله في العديد من الأفلام السينمائية والتلفزيونية (غرفة مطلة علي منظر، موريس، آماديوس، أربعة أعراس وجنازة، شكسبير لوف، أنجل في أمريكا)، ظل سيمون كالو مخلصا، وفيا للصالة، والكواليس، وغرف الممثلين، وشرفة المسرح، يقول: "هذا هو مكاني ووسطي الطبيعي الذي أشعر وأنا فيه بأنني ثائر وهادئ، في نفس الوقت، ثائر أمام هذا الذي سوف يحدث، وهادئ في قناعتي لأنني أعرف ماذا أفعل فيه، على وجه التحديد، كنت وما زلت مواطن الخشبة". إن هذا الحب، المثير والعجيب، يُرغمنا على الذهاب بعيدا ويجعلنا نراجع ونعيد النظر في مفهومنا للهبة والموهبة، ويجعلنا نعرف بشكل أفضل القياس ما بين الرغبة والعناد والضراوة. فمنذ تخرجه من مركز الدراما في لندن، وهو يفهم ماذا كان يريد أن يقول الممثل الأمريكي روث كوردن، عندما أكد: "إن امتلاك الهبة لا يكفي، يجب علينا أيضا أن نكون موهوبين من أجلها". إن سيمون كالو، بفعل الحظ أو أي شيء آخر، كان مختلفا عن بعض رفاقه الذين يعتقد أنهم أفضل منه، كان يمتلك النوعين معا، الهبة والموهبة. في البداية لم يكن يعتقد أنه يمتلك النوع الأول (الهبة)، ولم يكتشف ذلك إلا عندما اختار مكان تعلمه: "لقد قرأت جميع برامج ومناهج مدارس فن المسرح في رويال أكاديمي Royal Acadmy of Dramatic art ، بدا لي مثل مخيم لقضاء عطلة صيفية؛ أما مركز الدراما، فبدا لي مثل مخيم مكثف، كنت أعرف أن هذا هو الذي يليق لي وبي، كنت أعرف إلي أي درجة كنت سيئا". في مكان آخر من الفصل الثالث، وفي نصائحه للممثلين الشباب، يقول: يجب أن يمتلكوا الحاجة للتمثيل. إن الرغبة وحدها في التمثيل لا تكفي، وهنا يتبع في هذا القول مقولة المخرج الروسي فاختنكوف: "التمثيل، هو رغبة، ومشيئة وحاجة". يوجد في الكتاب أيضا، لحظات سعادة عاشها سيمون كالو، خاصة تلك التي اكتشف فيها كتابات، ميشيل تشيخوف، ابن أخ الدراماتورج الروسي الشهير انتوان تشيخوف. هذه الكتابات التي تعتبر بالنسبة لكالو، أساسية ومهمة، لا سيما أنها تدور حول (فن الممثل) وطريقة تحضيره لدور فلاستاف flastaf وتحليله المغري والمثير الذي أعطي عمقا لمعنى الشخصية. عند قراءتنا لكتاب سيمون كالو يولد لدينا إحساس بأننا أمام كنز وضع على جنب، أو في مكان بعيد، ينتظر زمنا مناسبا، وهذا ما يجعله أيضا في حالة انتظار أولئك الذين يريدون فهمه أو بالأحري، فهو يمتلك في طياته أسرارا رائعة خفية عن عصر متعجرف، إنه، بلا شك، كتاب قاسٍ، ووحشي في طروحاته وانتقاداته، مثل غول مدمر، ولكن هذا الغول أنيق ورقيق ويهمس بآذان أولئك الذين يريدون أن يسمعوه بشكل جيد. إنه وبكل بساطة كتاب عن حياة ممثل غنية وممتلئة، مثلما هو أيضا كتاب عن المسرح، عن هذا المكان الوحيد الذي ما زلنا نستطيع، في بعض المناسبات، أن نمرر فيه بعض الأشياء التي يمكن أن تذكرنا بأنفسنا، وتعلمنا من نحن، هذه الأشياء قادرة على جمع مجموعة من البشر لكي تذكرهم بمعني المجتمع من خلال حيوية الممثلين وانتمائهم الإنساني. * مسرحي من العراق يقيم في باريس