إن زيارة الوزير الأول الفرنسي، مانويل فالس، إلى بلادنا تعتبر ثالث زيارة لمسؤولين حكوميين فرنسيين خلال شهر واحد إلى المغرب، مما يؤشر على عودة الدفء من جديد إلى العلاقات المغربية الفرنسية بعد فترة من الجليد دامت أكثر من سنة. إن التوتر الذي طبع العلاقات المغربية الفرنسية خلال عام، بغض النظر عن الأحداث الطارئة التي قد تكون وراء تأجج هذا التوتر، فإنه يعبر في العمق عن أزمة حقيقية بالمفهوم الإيجابي للكلمة. أزمة مردها إلى كون العلاقات بين البلدين جرى نسجها في القرن الماضي على أساس معطيات تغيرت اليوم ولم نعد نقبل بهذا النوع من العلاقات، فالمحيط الدولي والإقليمي تغير، كما تغيرت أمور أخرى مثل الوزن الجيوستراتيجي للبلدين والأوضاع المؤسساتية والداخلية في كل منهما، بالإضافة إلى المعطيات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية. كل هذه العوامل أصبحت، في نظرنا، تتطلب إعادة بناء العلاقات بين المغرب وفرنسا على أسس جديدة تأخذ بعين الاعتبار كل هذه المتغيرات على جميع المستويات الاقتصادية والتجارية والديبلوماسية والسياسية والأمنية. وعن دور الجانب الاقتصادي في الأزمة بين البلدين فإن هذا الجانب لم يلعب، في رأي عدد من المتتبعين، دورا أساسيا في الأزمة؛ بل بالعكس هو الذي ساعد، بالإضافة إلى الملف الأمني، بشكل كبير في إعادة الأمور إلى نصابها و البدء في بناء علاقات قد تكون من طراز جديد بين البلدين. إن مستوى المبادلات التجارية بين البلدين يصل إلى حوالي 10 ملايير دولار، وفرنسا تبقى من أكبر المستثمرين الأجانب في المغرب، وهناك نحو 750 شركة فرنسية تشغل نحو 120 ألف عاملا، كما أن أكبر جالية فرنسية في إفريقيا توجد في المغرب، وفرنسا هي أكبر مصدر للسياح بالنسبة للمغرب. وارتباطا بالموضوع، فإن التمدد الاقتصادي والتجاري والدبلوماسي للمغرب في إفريقيا، أصبح يتزايد منذ عقد من الزمن وأصبحت المقاولات المغربية تأخذ مكانة أكبر فأكبر بالقارة السمراء جنوب الصحراء، ولاسيما في بعض القطاعات التي كانت تسيطر عليها الشركات الفرنسية كالقطاع المالي على سبيل المثال حيث أن الأبناك المغربية تجاوزت الأبناك الفرنسية في منطقة غرب إفريقيا. لكن هذه المعطيات لا تمنع بأن يصبح تواجد المغرب وفرنسا في القارة الأفريقية متكاملا، بل تساعد على ذلك مما سيعود بالنفع على البلدين وقطاعاتهما الاقتصادية والمالية والتجارية، وذلك عبر تطوير وتنمية الشراكات بين المقاولات في البلدين باعتماد مبدأ التوطين المشترك الذي قد يتجاوز البلدين ليصبح /مثلثيا/ يضم بلدانا أفريقية أخرى لاسيما في القطاعات التي أصبحت تشكل المهن الجديدة بالعالم مثل الصناعة الكيميائية والصناعات الحديدية والميكانيكية والإلكتروميكانيكة وقطاع الأدوية وغيرها. ولعل أحسن مثال يجسد هذا التكامل المثمر هو مصنع "رونو" قرب ميناء طنجة المتوسط الذي يشكل، برأينا، نموذجا ناجحا للشراكة المربحة لجميع الأطراف. وهناك موضوع آخر كثيرا ما أثير لتفسير التوتر بين البلدين والمرتبط بالمرجعية الإيديولوجية والسياسية للأغلبية التي تحكم فرنسا حيث يبرز البعض تصادف تصاعد التوتر في العلاقات المغربية الفرنسية مع تواجد الاشتراكيين في سدة الحكم في فرنسا. إلا أن هذا الأمر لا يشكل العنصر الحاسم في العلاقات بين البلدين، لأنها أعمق بكثير من أن يؤثر فيها بشكل حاسم وصول هذا الطرف أو ذاك إلى الحكم في فرنسا. إن الأزمة التي عرفتها العلاقات بين البلدين قد تكون بمثابة نقمة في طيها نعمة إذا ما استغل الطرفان فرصة تجاوزها لإعادة بناء علاقاتهما على أسس جديدة. فعلى فرنسا أن تتكيف مع الواقع الجديد بالمغرب الذي يتطور باستمرار معتمدة على مقارنة مبنية على التجديد والابتكار في إعادة نسج علاقاتها مع المغرب. كما أن من مصلحة فرنسا والمغرب أن تعتمد باريس على مقاربة جديدة على مستوى الشراكة الاقتصادية وأن تتوجه أكثر إلى القطاعات الإستراتيجية لتطور المغرب مثل النقل العمومي العصري والمدن الخضراء والصناعات الفلاحية الصناعية والطاقات المتجددة في إطار تكامل وتعاون مثمر بين البلدين تجاه شركائهم التقليديين لاسيما في القارة الأفريقية وكسب جزء من الأسواق الأخرى كالشرق الأوسط. فعلى سبيل المثال فإن معمل تصنيع السيارات "رونو" بطنجة، الذي سبق الكلام عنه في هذا المقال، ساهم في جعل الشركة الفرنسية تستعيد عافيتها التجارية والمالية ومكن المغرب من تنويع صادراته حيث أصبح قطاع السيارات أكبر مصدر بالمغرب إلى جانب القطاعات التقليدية المتمثلة في الفوسفاط والمواد الفلاحية .