إذا كانت العلاقة بين المؤلف والناشر تقوم على التنافر، فإننا نجد العلاقة نفسها بين المبدع والناقد. ينهض هذا التنافر على قاعدة تباين الإنتاج الذي يمارسه كل واحد من هؤلاء، وموقفه من إنتاج الآخر. فالكاتب ينتج «نصا» قابلا للقراءة، والناشر يحوله إلى «بضاعة» للاستهلاك. كما أن الناقد يقوم «بقراءته» مقدما تصوره للنص المبدع، من خلال إنتاج «نص جديد». إن كل طرف في حاجة إلى الآخرين لأن وجوده يستحيل بدون غيره. يبدو هذا التنافر في كون كل طرف ينظر إلى نفسه باعتباره «ذاتا» لها الفضل على «الآخر»؛ وأن هذا الآخر لا يمكنه إلا أن يكون في «خدمة» الذات المتعالية عليه: فالمؤلف يرى نفسه سبب «ثراء» الناشر. وهذا الأخير يعلن أنه وراء رواج اسم المؤلف. كما أن المبدع ينظر إلى الناقد بعين الريبة دائما. فبما أنه صاحب النص ومبدعه، فله أحقية الحكم عليه، وأسبقيته في التمييز بين ما يكتب عنه، لأنه يدعي ملكيته. فإذا وافق هواه ما يكتبه الناقد عنه، اعتبره ناقدا جيدا. وإذا خالفه اتهمه بالضعف والتجني. ولا يسلم الناقد من اتباع النهج نفسه. إنه يعتبر «قراءته» موضوعية، وأنه حقيق بأن يؤلف كلامه بغض النظر عن رؤية صاحبه له، أو موقفه منه. يؤدي هذا التنافر إلى فقدان الثقة، وتكامل العلاقة بين كل هذه الأطراف. ويتجلى ذلك في تبديل المؤلف لناشريه، وفي بحث الناشر عن مؤلفين جدد يعيد معهم التجربة التنافرية نفسها. كما أن المبدع ينتظر بروز قراءات لأعماله، أو يحث عليها، ليجد نفسه أمام موقف جاهز ضد الناقد أو معه، حسب نوع القراءة التي تنجز بصدد أعماله، ويظل التنافر قائما دائما. تتعدد صور التنافر، وتتنوع بحسب نوع العلاقات المتفرعة عن التي أشرنا إليها. فالمؤلف يتخذ الموقف نفسه من لجان الجوائز التي يرى أنها غير منصفة، أو متحيزة. ولو كانت «موضوعية» لكانت الجائزة من نصيبه. كما أن «رواية» كاتب ما حين تحول إلى مسلسل درامي، أو شريط سينمائي، يظل الحكم على المخرج بأنه لم يتصل بالنص، أو لم يكن أمينا، أو أنه حرفه عن مقاصد المؤلف، ويمكن قول الشيء نفسه عن المترجم الذي يمكن أن يتهم بالخيانة في حال تصرفه في نقل النص من لغة إلى أخرى. تكمن مسوغات هذا التنافر في اعتبار كل طرف نفسه «بؤرة» تدور الأطراف الأخرى حولها بما يتصل وأهواء صاحبها. وعدم الاعتراف بقيمة الطرف الآخر وهويته الخاصة، لا يمكن إلا أن يؤدي إلى تعميق التنافر بين كل الأطراف، ويجعل العلاقة متوترة أبدا. ويبدو لي أن هذا من بين الأسباب التي تجعل الواقع الثقافي يقوم على الالتباس وانعدام الثقة بين مختلف مكوناته، ولذلك تسود قيم لا علاقة لها بالعمل الثقافي في حد ذاته. إن العوامل الشخصية الخاصة، التي تصل إلى حد النرجسية، لدى كل طرف هي التي تصبغ على هذه العلاقة بُعد الانفصال لا الاتصال. عندما استنوق طرفةُ جملَ المتلمس، طلب منه هذا الأخير رؤية لسانه، فتنبأ له الموت بسببه. وحينما أقوى الفرزدق، قال لهم: علي أن أقول، وعليكم أن تتأولوا... والشواهد من التنافر بين المبدع والناقد لا حصر لها في التراث النقدي العربي. لكن المتنبي يذهب مذهبا آخر، بقوله بأن ابن جني أعلم منه بشعره؟ موقف شجاع من شاعر عظيم من عالم جليل. إن لغياب تقاليد ثقافية مؤسسة على قاعدة «التواصل» المعرفي بين مختلف الأطراف سببا في سيادة التنافر، وهيمنة الانفصال. فالمبدع لا يقرأ من النقد إلا ما يكتب عنه. وقلما تجد مبدعا، يطلع على أعمال النقاد المختلفة بهدف تعميق ثقافته ومعرفته الأدبية. وإذا ما حصل، فإنه لا يخرج إلا «صفر اليدين» لأنه لم يتعود على قراءة ما يجلب له الملل والكلل. لذلك لا نجده يبذل مجهودا في فهم ما يكتب من دراسات. ولا يتعدى موقفه في أحسن الحالات موقف الأعرابي الذي سمع نحاة يتحدثون عن العربية بمصطلحات ليست من لغته؟ بل أن له موقفا جاهزا من النقد والبحث الأكاديمي، ولا يرى في ذلك سوى خطاطات وأشكال لا قيمة لها في نظره. فهو يريد أحكاما جاهزة تخبره عن «قيمة» العمل إيجابا، بالنسبة إليه، وسلبا، لدى منافسيه. كما أن الناقد حين لا يتجهز لعمله البحثي بالموضوعية والدقة في التحليل والتقويم يظل يرسل أحكاما لا علاقة لها بالعمل التحليلي المؤسس على فهم الإبداع وقيمته الفنية والجمالية ووظيفته الاجتماعية. فالناقد الذي يظل يتمسك بخلفيات معرفية، يبحث لها عن نظير في النصوص التي يعالج، أو «يطبق» عليها تصورات بدون مراعاة الخصوصيات يظل قارئا أعمى. ويمكن قول الشيء نفسه عن المترجم وكاتب السيناريو والمخرج ولجان الجوائز والناشر. فعندما لا يتحمل كل طرف مسؤوليته ويتحلى بالأخلاق المتصلة بعمله وبالمهنية المبنية على أسس ومبادئ يمكن الاتفاق عليها، بهدف تشكيل تقاليد دقيقة وشفافة لا يمكن إلا أن يسود التنافر والاختلاف، وتهيمن الرداءة.