النقاش السياسي الوطني الذي اهتم بالتقسيم الجهوي لم يرق لحد الآن لمحورية الموضوع وطبيعته الاستراتيجية، وسمعنا أكثر حسابات بعض السياسيين والمنتخبين، خصوصا في المناطق، واللذين يحرصون أكثر على مواقعهم و...(مصالحهم)، وذلك بدل أن نسمع تحليلات معمقة لمرتكزات المنظومة الجديدة وتداعياتها وانعكاساتها المستقبلية... عدد الجهات بالمغرب انتقل اليوم من 16 إلى 12، وهذا لن يكون مجرد تفصيلة عددية بسيطة بقدر ما ستكون له امتدادات ميدانية وعلائقية، وبغض النظر اليوم عن منطقية هذا التقسيم وجدواه أو أفضلية تركيبات أخرى، فان المؤكد أن كل التقسيمات تحمل تجليات نقص ومظاهر قوة، وكلها تتطلب أيضا اختبارا في الميدان، ونخبا حقيقية لإنجاح دينامياتها العملية على أرض الواقع. التقسيم الجهوي بالمغرب يندرج ضمن صيرورة تتطور باستمرار، وهو اليوم يستهدف أيضا أهداف وطنية إستراتيجية غير خافية على أحد، وفي نفس الوقت غايات تنموية، فضلا عن تطوير نظام الدولة ككل، وهذا كله يجعل نظام الجهوية مدخلا أساسيا لتقوية مسلسلات البناء الديمقراطي في البلاد، وأيضاً طريقا لتطوير انفتاح نظام الدولة وتفاعله مع تغيرات الواقع والمحيط، ثم مرتكزا لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لمصلحة شعبنا، ومن أجل صيانة وحدة البلاد وتمتينها. ضمن هذا المنظور الشمولي يجب اليوم التعاطي مع التقسيم الجهوي، أي كمنظومة ترابية وإدارية لتدبير شؤون البلاد والعباد، وذلك في إطار الوحدة الوطنية والترابية للمملكة، مع الحرص الجماعي على تفعيل التضامن بين الجهات، وإنجاح التكامل. التقسيم الجهوي، وفق ما سبق، يعتبر إذن ورشا إصلاحيا وطنيا كبيرا وجوهريا، ويقتضي أولا وعيا سياسيا جماعيا من لدن الطبقة السياسية والمنتخبين والقطاع الخاص ومختلف مؤسسات الدولة، ثم انخراطا فاعلا من طرفهم جميعا في تنزيل مقتضياته بشكل ديمقراطي على أرض الواقع، وذلك حتى تتحقق أهدافه الاستراتيجية والتنموية والتكاملية. وبالإضافة إلى الوعي السياسي الجماعي، فان إنجاح ملف الجهوية يقتضي طبعا توفر إرادة سياسية كبيرة وحقيقية من لدن الدولة لتمكين مؤسسات الجهة من القيام بكل أدوارها بشكل ملموس، ومنحها الإمكانات المالية والقانونية الضرورية لذلك، بالإضافة إلى الموارد البشرية والأطر التدبيرية اللازمة، وأيضاً المقتضيات المسطرية والتنظيمية والأجواء العلائقية التي من شأنها تيسير بروز التدبير الجهوي الحقيقي في المناطق... والأساسي في كل هذا، أن الجهوية، كشكل ديمقراطي يسعى لتقوية مشاركة المواطنات والمواطنين في الشأن العمومي، تتطلب تشجيع بروز نخب سياسية واقتصادية وتدبيرية حقيقية وذات مصداقية في الجهات، ولهذا مطلوب من الدولة محاربة الهيمنة والتحكم والريع وفك الارتباط بين السلطات ولوبيات الفساد، وتقوية انفتاحها على مختلف الحساسيات الجادة، وفي نفس الوقت مطلوب من الأحزاب الترفع عن حساباتها الأنانية الضيقة وتقديم أُطر حزبية حقيقية في الجهات، تكون قادرة على حمل التنظيم الجهوي على أكتافها نحو الرسوخ والتجذر في الميدان كممارسة تدبيرية ناجعة، وكثقافة واعية بالرهانات و...بالوحدة الوطنية. الجهوية هي ورش إصلاحي جوهري وخيار استراتيجي، وليست مجرد حسابات ريعية ومواقعية بين الأحزاب والمنتخبين... هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته