سي العربي الدغمي .. في دنيا المسرح والتلفزة والإذاعة الحلقة19 لحسن حظ صناع الفرجة المسرحية، أنها إبداع جماعي تتداخل فيه عدة مهن وتخصصات. ليس هناك مهنة كبرى وأخرى صغرى. الكل أساسي وضروري في العملية الإبداعية المسرحية. لكن عندما تتم دراسة ومقاربة الظاهرة المسرحية، فإنها تركز على الكتابة المسرحية ومؤلفيها وتياراتها وأفقها الفكري والجمالي، أو تخصص حيزا لمكانتها في السياق التاريخي والثقافي والاجتماعي، أو تلامس الحركة المسرحية في تطورها وتنوع تجاربها الفنية ومدى قدرتها على الاستمرار والإبداع و التألق. من سوء الحظ أن صانع الفرجة المسرحية هو الممثل بالدرجة الأولى، لم تمنح له المساحة الكافية لدراسته والاشتغال عليه، باعتباره العمود الفقري للعرض المسرحي. فالنصوص المسرحية تطبع وتنشر والدراسات الموازية لها تنشر وتاريخ المسرح يوثق والعملية الإخراجية تسجل وتصور. أما الممثل، هذا الكائن المبدع الذي يبني العملية المسرحية برمتها. فإنه لا يحظى بالدراسة والتأريخ لحياته على مستوى الركح. فتاريخ الممارسة المسرحية الوطنية، لا يقف عند الكتاب وبياناتهم أو يتوقف فقط على المخرجين وإبداعاتهم. و لكن صيرورة الإبداع تنجز وتحقق بفعل موهبة الممثل الشامل. من منا غامر في وضع أركيولوجيا دقيقة للممثل المغربي؟ من هو؟ من أين أتى؟ كيف ولج عالم التمثيل؟ ما هو تكوينه ومرجعياته؟ ما هي مساراته في الدراما الوطنية والعالمية؟ كيف تمثل مهنته داخل المجتمع؟ أسئلة كبرى.. وقضايا شائكة واستفهامات تبقى معلقة، في غياب وانعدام دراسات ميدانية ومنوغرافية لتاريخ الممثل المغربي. من يتذكر أسماء لامعة شغلت الساحات المسرحية فرجة وابتسامة، وأدخلت الضحكة والبهجة لبيوتنا. تعج ذاكرتي بأسماء مثل سعيد عفيفي، عبد الرزاق حكم، محمد بلقاس، محمد حماد الأزرق، عائد موهوب، الحوري الحسين، حبيبة المذكوري، زكي العلوي، البشير لعلج، عبد الرحيم إسحاق، حسن الصقلي، عزيز العلوي، حمادي عمور،عبد الهادي ليتيم، عبد الواحد حسنين. واللائحة مغرية وتحتاج إلى نفض الغبار عن شخصيات صنعت، و لازالت زخم الممارسة الفنية ببلادنا. سأتوقف في هذه الحكاية عند ممثل سطع نجمه عاليا في سماوات التمثيل ، أتقن وأبدع وأضحك وسجل إسمه لامعا، وطنيا وعالميا. «إنه نجمة لاحت في سماء الكون ذات مساء، فتلألأت من نورها سائر النجوم.. ثم اختفت هذه النجمة بكل سرعة، وعلى حين غفلة، فبقيت جميع تلك النجوم تبحث عنها لتنال من أضوائها... و لكن هيهات!» عبد الله شقرون. النجم الساطع، هو الفنان الراحل العربي الدغمي (1931-1994)، رباطي المنشأ وأندلسي الأصل. بدأت حياته الفنية سنة (1948) كهاو للمسرح وفي نفس الوقت كان يمتهن التعليم بالمدرسة المحمدية بالرباط (قسم الشهادة الابتدائية). انخرط في فرقة المسرح المغربي التي كان يرأسها عبد الكريم الفلوس أحد رجالات الحركة الوطنية. في سنة (1952) سيلتحق بمعهد الأبحاث المسرحية بالرباط، وهناك سيتعلم أصول المسرح وفنونه تحت إشراف أساتذة فرنسيين ومغاربة، أمثال أندري فوازان، شارك نيك وعبد الصمد الكنفاوي و الطاهر واعزيز وعبد الله شقرون. بعد تكوين فرقة التمثيل المغربي (1953) سيصبح ممثلا أساسيا في أحد أعمالها ومن بينها « جحا» عن مقالب سكابان لموليير وهاملت لشكسر وعمي الزلط لأندري فوازان، وترجمة عبد الصمد الكنفاوي. بعد نجاحه و تألقه مع فرقة التمثيل المغربي، سيلتحق بفرقة الإذاعة المغربية (1954) بقيادة الكاتب والمبدع عبد الله شقرون إلى جانب عبد الرزاق حكم و حمادي الأزرق وأحمد بن مسعود (حميدو) و آخرون. من عالم المسرح فوق الخشبة إلى عالم الدراما الإذاعية. ثم العودة من جديد للتكوين المسرحي (1955) ليتلقى دروسا في فن الميم بفرنسا ويصبح أستاذا لفن الإلقاء (1958) بمركز الأبحاث المسرحية. من الستينات إلى أواخر السبعينات من القرن العشرين، سيولي قبلته نحو الدراما التلفزية فتألق في أعمالها، ثم السينما المغربية في أعمال لمخرجين مغاربة. «عندما يثمر النخيل» لعزيز الرمضاني والعربي بناني، والصمت اتجاه ممنوع» لعبد الله المصباحي و»عرس الدم» و»معركة الملوك الثلاث» لسهيل بن بركة و»إبراهيم ياش» لنبيل لحلو و»بامو» لإدريس المريني.. كما ستفتح له أبواب السينما العالمية مع جون هيستون في فيلم «الرجل الذي يريد أن يكون ملكا» ومع كوبولا في «الفرس الأسود»، ومع المخرج كاري نيلسون» كايترمان». عربيا مثل دور البطولة في فيلم «شمس الضباع» للمخرج التونسي رضا الباهي إلى جانب الفنان الكبير محمود مرسي. حيز هذه الحكاية، لا يسمح بتقديم كل منجزاته مسرحيا وإذاعيا وتلفزيا ومسرحيا. فالرجل كان بحق ممثلا محترفا. اتصف بالذكاء والنباهة والخبرة واليقظة والالتزام واحترام أصول المهنة. هذا ما دفع المخرج الأمريكي جون هيستون، مؤكدا على أن العربي الدغمي «نموذج الممثل الذي لا نجد معه صعوبة، لأنه يأتي جاهزا للوقوف أمام الكاميرا، ولا يحتاج إلى إرشادات، ولا لأي تبديل أو تغيير، والعمل معه سريع». كل الذين جايلوه واشتغلوا معه، يؤكدون على قدرته العالية في تجسيد أدوار مركبة سواء درامية أو كوميدية أو هزلية ولا يجد صعوبة من الانتقال من جنس درامي إلى نوع درامي. فالرجل امتلك شعلة التمثيل وتقمص الأدوار الصعبة ورافقته تلك الشعلة حتى وفاته. يقول عنه الراحل الطيب لعلج: «ولما انتقلنا إلى العمل المسرحي معا، اكتشفت في هذا الممثل -وأقول الممثل وألح على تسمية الممثل- اكتشفت أنه من أعظم المشخصين وأبرعهم من الذين عرفت أو شاهدت في حياتي، طيلة حياتي المهنية. ذلك لأن قدرة هذا الرجل على التبليغ -بعمق و تمكن ودراية- تستطيع أن تحول الممثل الذي يشخص إلى جانبه مشهدا تمثيليا للناس، تستطيع قدرته البالغة أن تحول هذا الممثل إلى مجرد متفرج مأخوذ مسحور بأدائه الرائع الجميل. وأعترف أنني كثيرا ما سرقني سحر أدائه فنسيت نفسي وأنا على الخشبة -سرقني الحديد- كما يقولون. وخاصية الأداء المتقن الساحر هذه، اكتشفتها في ثلاثة من الممثلين المغاربة بحكم التجربة والممارسة، وهم: العربي الدغمي ومحمد عفيفي، وأحمد الريفي الذي ترك المسرح -للأسف- وانتقل فيما بعد للعمل الإذاعي».