والهدف الأميركي – الإسرائيلي من إطلاق العنان لداعش دخلت منطقة المشرق العربي، منذ بضعة أسابيع، مرحلة جديدة، شديدة الخطورة، بعد أن استطاعت قوات «دولة الإسلام في العراق وبلاد الشام» (داعش) السيطرة على وسط العراق وغربه، أي على منطقة ذات أهمية كبرى، ليس فقط اقتصادياً بفعل وجود البترول، بل كذلك جيو - استراتيجياً، كون هذه المنطقة تشكّل عمقاً مهماً للتواجد الداعشي في سوريا، امتداداً إلى الحدود الأردنية والسعودية، من جهة، والتركية، من جهة أخرى. أي إلى حدود المشروع المرسوم «للخلافة» الذي لا ينسى إحلال اللون الأسود على لبنانوفلسطين المحتلّة. ويمكن القول إن الحرب الإرهابية، التي تأخذ من العراق اليوم مسرحاً لها، لم تكن مفاجئة أو أنها لم تأت من فراغ. فهي كانت منتظرة، نوعاً ما، نتيجة التطورات التي شهدتها السنوات التي تلت انهيار نظام صدّام حسين. ذلك أن حكومة نوري المالكي، التي شرّعت الفساد والهدر والمحسوبيات، لم تتوان عن اعتماد سياسات فئوية زادت من حدة التفجيرات الأمنية وفاقمت المواجهات ذات البعد المذهبي... في وقت لم تعمد فيه السلطة المركزية إلى إعادة بناء الجيش على أسس وطنية للحفاظ على وحدة الأرض، بينما كان النفوذ الإيراني يزداد ترسّخاً في جنوب البلاد وكانت قيادات إقليم كردستان تسعى إلى توسيع منطقة حكمها الذاتي من خلال وضع اليد على المناطق البترولية «المتنازع عليها» بحسب المادة 140 من الدستور العراقي والممتدة بين أربيل وبغداد (أي في منطقة العمليات العسكرية الدائرة اليوم). ولا بد من الإشارة، باديء ذي بدء، أن الولاياتالمتحدة الأميركية قد شكّلت، مرة جديدة، الحاضنة الأساسية للصراع المذهبي الدائر في قلب العراق، استناداً إلى كل التدخلات السابقة، المباشرة وغير المباشرة، في أوضاع العالم العربي، والثورات المضادة التي وجهتها وأشرفت على تنفيذها، بدء من ليبيا إلى السودان، إلى سوريا واليمن والبحرين، في محاولة لضرب الثورة الشعبية في مصر وتونس، ومنعها من تحقيق أهدافها، وخنق الانتفاضات التي انطلقت في أكثر من بلد عربي مطالبة بالإصلاح. ففي كل مرّة كانت واشنطن تلجأ إلى استخدام سلاح التعصب الديني والمذهبي عبر الدعم الذي قدمته، هي وحلفاؤها في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو والأنظمة الرجعية العربية، للقوى الإسلامية السياسية التي استخدمت كواجهة، أو كمطية، لوقف عملية التغيير الديمقراطي في العالم العربي ومنع الشعوب العربية من تحقيق شعارات التحولات الاقتصادية – الاجتماعية، وفي المقدمة منها شعار التنمية ومواجهة الفقر والبطالة... الخ. ونشير، هنا، إلى الدور المميّز الذي أعطي لجماعة الإخوان المسلمين في كل من مصر وتونس، وكذلك إلى بعض المجموعات الأخرى، ومنها «داعش» التي حظيت، بداية، بدعم مالي وتدريبي ولوجستي من قبل السي. أي. آي للإطاحة بحكم القذّافي... واستمرّ هذا الدعم لاحقاً، بعد انتقال «داعش» إلى سوريا، عبر تسهيل وصول المقاتلين. وهو، اليوم، يستمر في غض الطرف عن عمليات بيع البترول إلى بعض الشركات الأميركية الكبرى، وأرامكو منها بالتحديد، وهي الشركة الأكثر نفوذاً داخل المملكة العربية السعودية. ما هو الهدف الأميركي من وراء ما يجري اليوم في العراق؟ تهدف واشنطن من وراء تسهيل تصعيد حدّة التوتر المذهبي، ومعه التوتر الاثني (المسألة الكردية في سورياوالعراق)، إلى إطلاق المرحلة الثانية من مشروع «الشرق الأوسط الجديد»، الذي تعثر بعض الشيء بعد انسحاب قواتها من العراق والمراوحة التي اضطرت إلى اتباعها في أفغانستان. فهذا المشروع، كما هو معلوم، انطلق من العراق أولاً، من خلال استعادة جو بايدن، نائب الرئيس السابق والحالي، في العام 2007 لمشروع سبق أن وضعه هنري كيسنجر ويقضي بتقسيم العراق إلى ثلاث مناطق، كردية في الشمال وسنّية في الوسط وشيعية في الجنوب، تتمتع بحكم ذاتي، مع وجود حكومة مركزية محدودة المسؤولية والصلاحيات في بغداد. ولا ننسى ما قاله باراك أوباما للوفد الذي زار واشنطن بعد خروج القوات الأميركية والأطلسية مباشرة من العراق حول ضرورة إعلان «الإقليم السنّي» سريعا لمجاراة الإقليمين اللذين ثبتا أقدامهما في الشمال الكردي والجنوب الشيعي؛ كما لا ننسى ما سبق هذا وذاك من نشر خرائط للمنطقة العربية تنطلق أساسا من العراق وتحتوي على تغييرات في حدود الدول المنشأة بعد اتفاقية سايكس – بيكو، ومنها نشوء دويلات جديدة ذات طابع ديني ومذهبي تسهّل لأميركا وضع اليد على بترول وغاز العرب، ولإسرائيل التحول المنشود والمعلن إلى «دولة اليهود في العالم» بما يعني إنهاء الصراع العربي – الإسرائيلي، بعد تصفية القضية الفلسطينية أو بالتزامن معها. ما هو الوضع «على أرض الواقع» في العراق وامتداداً إلى الدول العربية المجاورة؟ لذا، وعلى الرغم من بعض الإعلانات التي صدرت من هنا وهناك حول أن قوات «داعش» ليست لوحدها في الميدان، بل أن ما يجري هو انتفاضة شعبية ضد سياسات التمييز المذهبي، فإن الواقع «على الأرض» يشير إلى سيطرة تلك القوّات التي أعلنت أنها بدأت بتكوين دولة الخلافة وأنها ماضية في التوسّع باتجاه تعزيز تواجدها ودورها في سورياولبنان، وكذلك في الأردن والسعودية التي تعيش تقلبات سياسية ملفتة، كان آخرها عودة بندر بن سلطان إلى الواجهة كمبعوث خاص للملك، إلى جانب تسلّم خالد بن بندر رئاسة الاستخبارات العامة، مع ما يعني ذلك من عودة الروح إلى الجسم المرتبط بالمخابرات المركزية الأميركية ووحداتها الضاربة الأساسية. هذا الارتباط الذي ساهم، في ثمانينيات القرن العشرين، في تنظيم «الجهاد» ضد الاتحاد السوفياتي داخل أفغانستان وأسس لقيام «القاعدة» ولحكم «طالبان؛ وهو الذي شكّل الأساس كذلك في الدفع إلى الأمام بتنظيمي «داعش» و»النصرة» وأشباههما في العالم العربي ككل. هذا، في وقت بدت فيه واشنطن في حالة «ترقّب» سياسية، غير مستبعدة التدخّل المباشر في العراق في ضوء تطورات المرحلة المقبلة. هذا ما نلمسه في خطب باراك أوباما وتصريحاته، إن لجهة الحديث عن نشر المزيد من القوى والموارد العسكرية الأميركية في المنطقة أم لجهة الإشارة إلى زيادة ما أسماه «الموارد الاستخباراتية» ودورها في تأمين معلومات إضافية عن «أهداف محتملة مرتبطة بداعش»، أم أخيراً لجهة تنفيذ «عمل عسكري هادف ودقيق متى قررنا أن الوضع الميداني يقتضي ذلك». وإذا ما ربطنا كل ذلك مع التحذير الموجه ل «داعش» إن هي حاولت التمدّد باتجاه الأردن، وما ترافق معه من إشارات حول احتمال انزلاق العراق في حرب أهلية، وما تبعه من موقف الكيان الإسرائيلي الذي أعلن على لسان وزير خارجيته أن «استقرار الأردن هو مصلحة قومية وحيوية... وسنفعل كل ما في وسعنا للحفاظ على المملكة الأردنية»، فإن ذلك يعني بالضرورة أن المنطقة مقبلة على تطورات عسكرية، ليس فقط في العراق، بل ربما في لبنان، وكذلك في فلسطين حيث مبرر تصعيد العدوان الصهيوني جاهز بعد اكتشاف «المستوطنين» الإسرائيليين الثلاثة جثثا هامدة في الخليل، وهي المنطقة الجديدة التي يسعى الكيان الإسرائيلي إلى السيطرة الكاملة عليها عبر حركة استيطان مكثّفة ومدروسة. هل الحروب الأهلية والانقسامات المذهبية ستكون الحل المرحلي؟ هذه المخططات التي كشفت، إضافة إلى تلك التي لم تكشف بعد، إنما يمكن تصورها في سياق العمليات العسكرية والأمنية الجارية، والأدوار التي تلعبها الدول الإمبريالية والرأسمالية عموماً في الأزمة العراقيةالجديدة، تدل أن المشرق العربي على مفترق طرق، امتداداً إلى تركياوإيران والدور المرتقب لكل منهما في خارطة الشرق الأوسط الجديد، خاصة بعد استعادة مشروع أردوغان التوسعي لبعض من زخم كان قد فقده خلال انتفاضة «تكسيم» في العام الماضي، وبعد أن استطاعت إيران أن تعود إلى الواجهة من خلال اتفاق جنيف حول برنامجها النووي وكذلك عبر اتفاقيات تعاون مع العديد من البلدان في آسيا الوسطى. وممّا لا شك فيه أن إعادة رسم تلك الخارطة بفعل سياسة «الفوضى الخلاّقة» (والإرهاب أحد الأشكال الأساسية له إلى جانب الحروب المذهبية)، ستكون على حساب وحدة العديد من الدول العربية، بدء بالعراق وامتدادا إلى لبنان، كما سبق وأسلفنا. ولبنان هو الحلقة الأضعف في المعادلة الجديدة، ليس فقط لتأثره المباشر بالأزمات في كل من سورياوالعراقوفلسطين، بل خصوصا لما لنظامه الطائفي المتجه نحو التمذهب من دور في توليد الانفجارات الأمنية (التي لم تتوقف تقريبا) وتشكيل بيئة حاضنة لكل أنواع الإرهاب والتفتيت. من هنا، يتوجب على القوى التقدمية والديمقراطية اللبنانية، سياسية كانت أم نقابية وشعبية، أن تأخذ في الحسبان الوضع العربي العام وأن تسعى، قبل فوات الأوان، ورغم الصعوبات الناجمة عمّا يعتري مؤسسات الدولة من عورات، لوضع الخطط التي تحمي السلم الأهلي والوحدة الوطنية وتساهم في التأسيس للبديل الديمقراطي.