تُعَد الشاعرة خلود المعلا من الشاعرات اللائي يحملن آلام القصيدة النثرية بشغف واسع، لأنها لا تنطلق من أرضية ثابتة في قصيدة النثر العربية، بل ترسخ لنصها على طريقتها الخاصة جدا من خلال رحلتها في التجارب الشعرية المتحركة داخل العالم الذي تصنعه. المعلا تكتب نصا قصيرا أشبه بشعراء الإبيجراما اليونانية، أو شعراء الهايكو الياباني. وعلى الرغم من قصر النص الإبيجرامي النثري لدى خلود المعلا، فإنه يحمل الكثير من العمق الدلالي والفني الذي يحتاج لتأويلات متعددة، ولا يحتاج لشروحات سطحية. وعليه فإن المُعَلَّا شاعرة عربية تنسج من قلبها رؤيتها للعالم من خلال روح الذات الشاعرة في نصوصها، فترسم الصورة الشعرية من خلال لغة تتماس مع الهواء اللغوي الذي يمر أمام أعيننا ولا نراه، نشمه ولا نتذوقه. هذه هي شعرية خلود المعلا تتشكل من الروح لتدخل في أعماقها، حيث حضور القلب كثيرا داخل الديوان ممتزجا بروح النص، والحياة، كما يطل الوقت برأسه في نصوصها كثيرا، لأن الذات الشاعرة ترصد الوقت من خلال جوانيتها التي تتمسح بآفاق العوالم الرحبة في دنيا البشر، فهو وقت يبدد وحشة الذات ضافيا عليها محبة المعشوق والعاشق، ومنحها أيضا، ألقا صوفيا مائزا في الشعرية العربية. جاء مشروع خلود المعلا الشعري يحمل سموقا ما، وتمايزا إنسانيا كبيرا على مستوى التشكيل والرؤية الدلالية، بل تجلت خلود المعلا في رصد فتوحات الصمت والتأمل في الحياة، فتقول في تصدير الديوان: «ها أنا الآن أنصت، ها أنا أسمعه أخيرا» تبدو شعرية الصمت التي تحتفظ في حوصلتها بالسؤال الغامض، أين كنت أيتها الروح؟ وتبدو الذات الشاعرة منصتة لهسيس الحياة، وأنينها المتواصل في عالم لايرحم الضعفاء. وتقول الشاعرة في موقف الضمة حيث نلاحظ تأثرها الكبير بمواقف ومخاطبات الصوفي الأكبر عبدالجبار النفري: «الضمة نقطة وجودي، لام لغتي، بالضمة على النقطة أصير، ولهذا أكتب اسمي ألف مرة كلما هبط الليل وأذوب عناقا» الذات الشاعرة تبدو غائمة في لغة الصمت، والحال، حيث الضمة المسكونة على حرف الميم في المعلا، وقبلها حرف الخاء، في خلود، كما أن الضمة هي سحر التصوف والارتقاء. تصبح الضمة ذات وجهين دلاليين الأول هو الحركة الإعرابية كما ذكرنا، والثاني، ضمة الحبيب للحبيب (الوطن الأرض الأهل، المعشوق الأكبر). كما أن الضمة التي تكون على الحرف الأول في خُلُود، وعلى الميم في المُعَلَّا، هي جزء من البنية الصرفية للاسم، حيث وجودها يشكل خصوصية ما لدى الذات الشاعرة، فهي ترى حياتها من خلال خلود. وتقول في حال التصوف والحزن: «لا أفرح بالشمس لأنها تبدد غيمتي التي طالما انتظرتها فأدرك أن الحياة زائلة» تبدو الذات الشاعرة حزينة في النص الفائت، عندما تستخدم أداة النفي لا، التي تنفي الفرح الذي تبعثه الشمس، مبددة جراحنا، ولكن هذه الشمس تقطع حياتنا، ليمضي العمر بنا دون رجوع، فهي أيام محسوبة علينا. خلفها يتساقط العمر الجميل، لنعبر الكثير من المحن التي تجففها شمس أيامنا الماضية، وعندها تدرك الذات الشاعرة أن العالم زائل بزوال هذه الغيوم، وبحضور الشمس يتطهر كل شيء، ليطل الشعر برأسه من نافذه العابرين إليه. وتقول المعلا أيضا متلبسة حال الصوفي الذي يبحث في روحه عن روحه : «كلُّ شَيٍء حوْلي ساَكنٌ حَتَّى ارتعاشةُ ذلكَ الغصنِ الوَحيدِ لنْ تَتَغَيَّرَ هذهِ الحالُ علىَّ إذًا أنْ أهَرِولَ إلى قلْبِي أحَرّرَهُ» تكتب خلود المعلا كثيرا عن تغير الحال، والنفس / القلب، ، وتبدو لي وكأنها جاءت إلى روحها، لتبحث عن ماهية الحقائق الجديدة، تبحث في نفسها عن نفسها أيضا، كما تتشكل من خلال النص الشعري لدى المعلا ذات شاعرة، تيقن تمام اليقين، أنه لن يحدث تغير إلا بانفجاره من الداخل/ القلب تحديدا، ليبدأ القلب في التغير، عندما يبدأ الإنسان في تحرير هذا القلب المشغول الأسير في جسد الآخرين، عندّ إذن سيبدأ الحال كله في التشكل الحياتي من جديد . كما تتكرر مفردة القلب كثيرا في ديوان المعلا أمسك طرف الضوء، وكأنها تعيش داخل هذا القلب، أو تتحرك من خلاله فتقول في نص قصير: «كيفَ تركتَ قَلْبِي يومَ ذاكَ ما مِنْ أحَدٍ يَعْرِفُ ما مِنْ أحَدٍ مُطْلَقًا ولَا حَتَّى أنَا» تتجلى صورة / روح الصوفي في نص المُعَلا، لأنها تصف حال الروح دون حقيقة الجسد، بل تطمح لوجود الروح التي تبحث عن القلب في كل مكان ؟ فقد تركت القلب منغمسا، تائها في حضرة الحبيب، فقد تماهى البدن في عملية الإدراك الحسي العابرة التي فُقِدَ القلب على أثرها، وأصبح نول الوصول في إخفاء المحبة، والبحث عن الحبيب من خلال الضوء الذي يخرج من قميصه. وعن توق الروح تقول المعلا: «في روحي تتناسل كائنات شتى تتمايل على غصن ذابل فيجثم قلبي على نبضه في هذا المساء الربيعي» إن تكرار الروح والقلب في نصوص خلود المعلا، يمنحنا تأويلا جليا لنصها، حيث ارتباط الروح بالقلب، وكأن القلب يسكن الروح، والروح تسكن القلب من ناحية أخرى، وترتكز الشاعرة على مفردات بعينها ملحة عليها ومكررة إياها مثل: (تتناسل تتمايل يجثم نبضه في المساء الربيعي) إن الحال يطل بنفسه في هذه القصيدة القصيرة من خلال الأفعال المشهدية التي تتعلق بروح القصيدة، لأنها تمنح الذات الشاعرة ، هروبا من الواقع الراهن؛ للخلود في الواقع الأكثر عدلا وصفاء روحيا خالصا، بحثا عن الحب والخير والجمال. وتقول في قصيدة طويلة بعنوان تحريض: «ماذا لو قفزتُ من ذاكرتي ومشيت بمحاذاة الماضي؟ ماذا لو وقفت على شفا الوقت ونثرت مخاوفي في عيون الريح؟ ماذا لو توقفتُ عن العد وتسلقت أسوار القدر؟ ماذا لو هرولت نحو الطبيعة وتلاشيتُ في رهافة غيمة ؟ ماذا لو ركضت الآن ..... ؟؟» تتجلى في النص شعرية السؤال التي تعتمد عليها المعلا فتحمل الكثير من التحريض نحو الجنوح لكسر حواجز الصمت الأبدي، حيث فرار الذات من الحاضر، والرغبة الملحة للعودة إلى الماضي، حيث ذكرياتنا، عشقنا، روحنا الطاهرة، كان الماضي أكثر جمالا من الحاضر الآن الذي تعيشه الذات الشاعرة. ثم تبالغ الذات الشاعرة في وجود المجازفة لكسر حاجز المستقبل والقفز من خلاله نحو المجهول الذي تصبو الذات لمعرفته. بل تبحث أيضا عن الخلاص النهائي من هذا العالم / الحاضر، حيث تعاني الذات الشاعرة من فجائع اللحظي الذي قضى على الطبيعة التي تمنحنا الأمل في الغد. وتقول أيضا في نص لافت بعنوان، أدوات: «هذا الصمت الذي لا أطيق هذا الزمن الذي أخاف هذا العمر الناقص الذي يمر هذا القلب الذي لايسمعه أحد هذا الوطن البعيد هذا الانتظار هذا الهذيان إذا، ها أنا أملك أدوات الحياة» تتجلى أدوات الحياة التي تحمل الكثير من الإشارات والكلمات المشحونة بالشعرية المشهدية لدى خلود المعلا، حيث إنها تمنح الذات الشاعرة الكثير من الألم والضياع.