من أجل بديل عصري ومقاربة جديدة لتجميع شتات اليسار نحو إطار جديد للتحالف يناضل من أجل مجتمع تقدمي ديمقراطي حداثي متطور تسوده العدالة والكرامة إن وثائق المؤتمر الوطني التاسع ليست كباقي وثائق المؤتمرات الوطنية التي عقدها حزب التقدم والاشتراكية، لأن نزولها يأتي في سياق زمن سياسي مغاير، وفي ظل ظروف مغايرة ومختلفة عن ظروف انعقاد المؤتمرات السالفة. هذه الظروف التي يمكن إجمالها في ما يلي: - ظروف ما بعد دستور 2011، والذي يعتبر دستورا توافقيا، والعوامل والأسباب التي ساهمت في إعداده وتنزيله. - دخول الحزب في ائتلاف حكومي مع حزب يقود الحكومة أثار الكثير من اللغط السياسي في وقت سابق، هذا الائتلاف اعتبر حدثا سياسيا بامتياز، حيث أحدث نقاشا واسعا بين مختلف الفاعلين السياسيين وكدا المهتمين بالشأن السياسي، كما أسال الكثير من اللعاب وهذه العملية لا علاقة لها بنظرية بافلوف.. - ظرف اقتصادي واجتماعي شائك يضع الحزب في موقف المساءل والمراقب (بفتح الهمزة والقاف) حول ما سيتخذه من ومواقف وقرارات إزاء صندوق المقاصة، منظومة التقاعد، الرفع من القدرة الشرائية، التشغيل ... - ظرف تشكيل الحكومة الحالية المنوطة بمهمة محاربة الفساد والاستبداد والإسهام في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للبلاد والعباد. إن الوثائق المقدمة للمؤتمر غير موجهة للمناضلين فقط، بل هي موجهة لعموم الشعب المغربي، بحكم أننا نشتغل داخل هذا الشعب ومعه، ولعموم المهتمين بالشأن السياسي فرقاء ومثقفين... من هنا يبقى البناء النظري للوثائق يعكس نوع الخطاب المتبنى، ويعكس كذلك تميز مدرسة حزب التقدم والاشتراكية عن باقي الأحزاب السياسية. وتبقى وثائق الحزب المقدمة للمؤتمر الوطني، إلى جانب تقارير وخلاصات اجتماعات اللجنة المركزية، إجابات على مجموعة من القضايا المطروحة سواء وطنيا أو إقليميا أو دوليا. 1- انهيار جدار برلين مرة أخرى: إن الأزمة الاقتصادية العالمية وانعكاساتها على اقتصاديات البلدان السائرة في طريق النمو، وغطرسة النظام الرأسمالي العالمي وتعميقه للفوارق بين الشمال والجنوب وغياب التبادل المتكافئ، كل هذا ينبهنا كماركسيين ويدفعنا الى مساءلة عامة «الاقتصاد السوق» ويحفزنا لإعادة النظر في تقييمنا لما بعد انهيار جدار برلين واستخلاص الخلاصات الضرورية بعيدا عن كل دوغمائية أو الركون إلى الخطاب التبريري. إن الإقبال المتزايد على إعادة قراءة مؤلفات ماركس والمثقفين الماركسيين خلال الأزمة الاقتصادية الحالية تؤكد أن الخلاصات التي قامت بها أغلب التنظيمات المناهضة للرأسمالية الليبرالية لانهيار جدار برلين الذي كان يفصل، في بعده الرمزي، النظام الرأسمالي الذي يتطور بشكل طبيعي وجدلي، والنظام الشمولي المنغلق، الاحتكاري، المستبد والذي سطا على الاشتراكية ووضعها عنوانا لمشروعه الاستبدادي التي كانت تقوم به القيادات المسماة قصرا شيوعية، قلت إن تلك الخلاصات هي خلاصات أبانت عن ضعفها، وساهمت في ضبابية هوية أحزاب اليسار العمالي العالمي وتقاطع تحليلاتها للأوضاع والبدائل المقترحة مع سائر القوى الليبرالية خطابا وتوجها (...) إننا مطالبون كمدرسة سياسية أن نعيد ترتيب أفكارنا، وإعطاء شحنة إضافية للدراسة والتحليل، واستنهاض مثقفي الحزب لقراءة جديدة للواقع المغربي وبنياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية قصد بلورة تصور متقدم، وإغناء الساحة السياسية والفكرية بأطروحات جديدة تخلخل البنية المفاهيمية السائدة، وتضع حدا للتيهان الفكري والاجتهاد القاصر، وإعادة النقاش السياسي والفكري المسؤول والهادف إلى الوضع الذي يجب أن يكون عليه. 2- «الربيع الديموقراطي» أو إعادة خلط الأوراق: إن القراءة المتسرعة والمتذبذبة للأحداث التي شهدتها البلدان المغاربية والعربية خلال السنوات الأخيرة، والانبهار والدهشة التي أحدثتهما هذه الأحداث، وما استتبعهما من تخوف وقلق من طرف أغلب الفرقاء السياسيين، مرده الانفجار المفاجئ وغير المتوقع، هذا التوجس طبع أغلب الأحزاب بمبرر أن هذا الحراك لا يحمل مشروعا واضحا ومعقولا، أو أنه ذو أهداف أصولية قروسطوية. إلا أن ما لم تجرؤ عليه الأحزاب ومعها مثقفوها، هو الإشارة بشكل صريح وعلني بأن الإمبريالية العالمية كانت لها اليد الطولى في إعادة خلط الأوراق بالمنطقة، واستكمال مشروع بلقنة الدول وزرع الطائفية والتناحر بدءا من عراق صدام ومرورا بليبيا العقيد وانتهاء بسوريا الأسد. ولعل النتائج التي تمخضت عن تفكيك بنيات الدولة بالعراق وليبيا والآن بسوريا والزج بشعوب هذه البلدان في حمامات الدم بدون أي مبالاة تذكر من القوى «العظمى» لحقن الدماء ووضع حد للفوضى العارمة... لهو خير دليل عن خطة مدروسة من طرف الدول العاشقة للغاز والنفط والتي تتلذذ ببيع أسلحة الفتك والقتل والدمار... وتبقى البلدان التي انفلتت من هذا المخطط، والتي تشكل استثناء (تونس والمغرب) جديرة بالتقييم والدراسة. بحيث أن هذه الدول تميزت بمبادرة الأحزاب في قيادة عملية الإصلاح والتغيير إلى حد ما بالإضافة إلى مستوى وعي شعوب هذين البلدين. هذا ما أدى في بلادنا إلى صياغة توافقية لدستور 2011 الذي من المفروض أن يتم تنزيله بشكل توافقي... والمؤتمر الوطني هو محطة مهمة للتأكيد على ضرورة تفعيل مضامين الدستور، ووضع مطالب تشريعية سواء على المدى المتوسط أو البعيد انسجاما مع شعار المؤتمر الوطني التاسع وانسجاما مع استراتيجية الحزب. إن الخطوة الأساسية لبناء مؤسسات ذات مصداقية هي محاربة الجهل والأمية ومواجهة كل ما من شأنه أن يكرس التخلف السياسي والثقافي لأن مستوى المؤسسات في بلد ما ما هي إلا انعكاس لمستوى وعي شعب هذا البلد. 3- الحزب وتدبير الشأن العام: الحزب راكم تجربة مهمة في تدبير الشأن العام من خلال مشاركته في الحكومات التي تشكلت ابتداء من حكومة التناوب التوافقي. وهي تجربة أغنت رصيده في هذا المجال وساهمت في تجذره أكثر في الواقع المغربي. إن الحزب الآن صار مطالبا، ليس فقط، بالإجابة عن تجربته الحالية مع العدالة والتنمية، بل مطالب أكثر بالإجابة عن تجربة دامت زهاء 17 سنة من المساهمة في تدبير الشأن العام، وبذلك سيكون الحزب واضحا مع الشعب في إسهاماته ومواقفه داخل وخارج الحكومة... وهذا لا تتسع له وثائق المؤتمر، الشيء الذي يستوجب منشورا خاصا موازيا لوثائق المؤتمر ينير المؤتمرين وعبرهم كافة المناضلين في مختلف الأقاليم، ومن خلالهم كذلك عموم المواطنين وسائر المهتمين بالشأن السياسي والاجتماعي. وما يمكن أن يقال عن العمل الحكومي يمكن قوله عن المجال التشريعي. 4- الكتلة، اليسار والتحالفات: هل الحديث عن الكتلة ما زال يتمتع بنفس القيمة والمصداقية التي كان يتمتع بها خلال التسعينات من القرن الماضي؟ ألا يعتبر الحديث عن هذا الإطار الذي لم يعد له وجود بعد كل ما شابه من إعاقات وبعد الدستور الجديد هو حديث عن وهم أراد أن يلازمنا في خطبنا وأطروحاتنا؟ إن الكتلة استنفذت دورها بعد تعديل دستور منتصف التسعينات، الآن هناك وضع جديد، وضع ما بعد دستور 2011 وتجربة الائتلاف الحكومي الحالي والخريطة السياسية الحالية وما يعتمل في الحقل السياسي من تقاطبات... لذا فإن الرقص على نغمات إطار مستهلك تقريبا أو تماما، هو رقص لا ينسجم مع الإيقاع السياسي الجديد والدستور الجديد والخريطة السياسية «الجديدة «. أمام هذا الوضع، ألا يعتبر التفكير في إطار جديد للتحالف بغية الدفع في اتجاه التنزيل الديمقراطي للدستور، وفي اتجاه إرساء دولة المؤسسات هو المطروح حاليا وبإلحاح، بحكم أننا ننتمي إلى اليسار التقدمي وإلى القوى الديمقراطية التي تناضل من أجل مجتمع تقدمي ديمقراطي حداثي متطور تسوده العدالة والكرامة؟ إن الإسهام في فرز تكتلات منسجمة وبلورتها على أرض الواقع سيساهم لا محالة في رفع مستوى الوعي والممارسة السياسيين، وسيسهل على المواطنين مقارنة المقاربات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية بين مختلف الفرقاء السياسيين، كما سيسهل على اليسار المغربي السير نحو المشروع المجتمع الذي ينشده بقوة وثبات. من هذا المنطلق فإن إعادة النظر في كيفية طرح التحالف مع القوى الديمقراطية والتقدمية بات أمرا ملحا، لأن احتكاك هذه القوى فيما بينها وشيطنة البعض للبعض الأخر أفرز وضعا شاذا لليسار المغربي. وهكذا فإن وحدة اليسار يجب أن تنطلق من حوار مفتوح ومسؤول بين مختلف مكونات اليسار المؤمن بالعمل داخل المؤسسات الديمقراطية والذي يروم دولة متقدمة ديمقراطية حداثية، منطلقه تحطيم العقبات والإنصات من أجل إرساء أسس العمل المشترك على ركائز واضحة بدون وصاية أو استعلاء أو تبعية. بالإضافة إلى ما ورد حول التوافق في الوثيقة، وجب التأكيد على أن التوافقات منذ 1997 جاءت نتيجة غياب فرز أحزاب قوية تستطيع الانفراد بتشكيل حكومة منسجمة فكريا وسياسيا... مما يعني، فرز أقطاب سياسية متجانسة تستطيع بمفردها قيادة الشأن الحكومي. هذا المسلسل التوافقي المستمر يعني، وهذا يهمنا جدا، أن اليسار المغربي لم يخرج من أزمته التي تتجلى في تشتته وتيهانه بدون بوصلة واضحة تقوده نحو أهداف محددة بوضوح. إن حزب التقدم والاشتراكية مطالب في هذا الظرف بالذات أن يأخذ المبادرة في طرح مقاربة جديدة لتجميع شتات اليسار وأن يكون رائدا في ذلك، مما يعني أن يطرح بديلا عصريا يلائم الوضع الحالي وتحدياته... وذلك انطلاقا من استخلاص الخلاصات الضرورية والمقبولة من تجارب الماضي ومن طريقة التعامل مع مكونات اليسار. إن الحزب صنف نفسه، منذ البداية، ضمن خندق الحداثيين من خلال تكرار ذلك في أكثر من مكان من فقرات الوثيقة. والحزب هو حزب ماركسي يناهض كل أشكال التحنيط الفكري والسياسي وكذا الثقافي، حزب يناضل من أجل مجتمع المساواة والحرية، مجتمع يكون فيه الاحتكام لمؤسسات ديمقراطية واضحة، حزب يناهض الفكر الشمولي والقروسطوي أنى كان مصدره، حزب يؤمن بالتعدد العقائدي ويحترم، بل ويعمل على خلق هامش واسع ليعبر الكل على طقوسه في جو من الاحترام والتعايش. حزب يسعى إلى فصل حقيقي للسلط... حزب يسعى إلى تطوير الموروث الثقافي للشعب المغربي، حزب يؤسس لمجتمع الكرامة والحرية والمساواة، حزب يسعى إلى ترسيخ مجتمع القيم. إن المؤتمر الوطني يعتبر محطة ليست كباقي المحطات لطرح قضايا نتطلع إليها في المستقبل القريب والمتوسط، قضايا متقدمة مقارنة مع الوضع الحالي وما يتيحه الهامش الديمقراطي الحالي.