أنا كائن لغوي أعشق اللغة وأتذوقها وأحاول تذويقها للآخرين يتناول هذا الحوار مع القاص المغربي أحمد بوزفور مجموعة من المواضيع المرتبطة بمفهوم القصة القصيرة، واللغة والبناء القصصي، وإمكانيات اللغة العربية في التعبير القصصي.. يقول بهذا الصدد أن النصوص القصصية الجديدة تحفل بكثير من التقنيات المستنبتة من بذور مختلفة المصادر، بعضها تقبله القصة دون مضاعفات، وبعضها ترفضه، فلا ييأس ويعاود التجربة. كيف تشتغل باللغة وعلى اللغة لبناء قصة؟ إذا كان من الضروري أن يعبر حرف جر عن العلاقة بيني و بين اللغة، فإني أفضل (في)، أي أنني أشتغل في اللغة، و أن اللغة بالنسبة لي ليست مجرد أداة أشتغل (بها)، و ليست مجرد موضوع اشتغل (عليه)، و لكنها مناخ عام أشتغل فيه، مناخ تنسجه ذاكرة حافلة بالنصوص اللغوية المتنوعة المصادر: نصوص تراثية - نصوص عربية حديثة - نصوص عالمية مترجمة - نصوص شعبية - نصوص الواقع الاجتماعي الذي أعيش فيه، و كل ذلك يلون عيني أنا أكتب، يضغط على سن القلم و يوجه اختيارات المعجم و صيغ التراكيب، و درجة انزياح الصورة أو غرابة الوظيفة أو حركة العامل. كيف أتحرك داخل هذا المناخ ؟ ما هو مقدار الحرية المتاح لي تحت نيره؟و ما هو الخيط أو الخيوط الجديدة التي أضيفها إليه؟ لا أدري، إن الجواب على ذلك يتطلب نقدا داخليا يقوم به لسانيو نصوص من نوع خاص، وكل ما استطيع أن أقوله هو أنني كائن لغوي أعشق اللغة وأتذوقها وأحاول تذويقها للآخرين، وأنا مغرم بالأحياز الضيقة (الجمل والكلمات والحروف)، وأشك في قدرتي على الإنتاج، وأنقدها بقدرتي على التلقي. أستعين في اختيار الحروف بأذني الإيقاعية، وفي اختيار الكلمات بفقه اللغة من جهة وذاكرتي القرائية من جهة ثانية، والسياق العام للقصة من جهة ثالثة، و في تركيب الجمل و إنهائها بأنواع من المعارف المختلفة، مثل الإلقاء، النحو، الأسلوبية، التناص، التنفس، غير أن هذا الاشتغال الميكروسكوبي يخضع في النهاية لضرورات الشكل الجمالي و البناء الفني العام للقصة كعمل أدبي مكتمل و مستقل و دال. هل تستطيع أن تصف ما تراه باللغة العربية؟ أم لا تعبر إلا بما تستطيع اللغة العربية التعبير عنه؟ ما أراه كثير و متنوع ومختلف ومتشابك ومعقد، واللغة محدودة الحروف محدودة الكلمات ...لكن، ينبغي مع ذلك أن لا ننسى الإمكانيات والطاقات الهائلة التي تختزنها اللغة. إنها نظام من الرموز والعلامات، مفتوح على ملايير ملايير الإمكانيات. و على أي حال فهذا كله يتعلق بالذين يعبرون باللغة عما يرونه من الواقع، أما الكتاب- لنقل: النوع الذي أنتمي إليه من الكتاب - فلا يعبر باللغة عما يراه – بل يأخذ ما رآه وما عاشه وما سمع عنه وما قرأه وما تخيله - كمادة خام ويأخذ اللغة هي الأخرى - وكل طاقاتها الهائلة - كمادة خام، و( يصنع) منهما معا داخل مختبره الخاص - الخاص سيكولوجيا و ثقافيا وجماليا - شكلا فنيا جديدا نماما. يقولون إن الكل لا يساوي فقط مجموع أجزائه، وكذلك العمل الفني لا يساوي ولا يعني مواده الخام ( الواقع أو اللغة أو هما معا)، بل يساوي و يعني نفسه فقط. ما هو تعريفك للقصة القصيرة؟ و ما هو مفهومك لها؟ في اللغة العربية يسمون التعريف حدا وهو حد بالفعل، أي جامع مانع: يجمع كل أجزاء الموضوع المراد تعريفه، و يمنع كل عنصر غريب من الدخول تحت هذا التعريف. وإذن فالتعريف بهذا المفهوم، كما ترى لا يليق بالقصة، هذا الجنس الأدبي الفائض على كل حد جامع، والقارض لكل حد مانع. لنحاول المقاربة من طرق أخرى غير طريق التعريف: لابد في كل قصة من حكاية، لنقل: من حكي، من قطرة حكي على الأقل، أليس كذلك؟ و لكن تشكيل القصة لهذا الحكي يختلف من أنواع السرد الأخرى( الرواية- السيرة الذاتية- الحكاية الشعبية- الخرافة- الملحمة- الأسطورة). هناك ألوان من الكثافة والإيحاء، ومن الإيقاع والتشكيل، من الطرز و الإبرة ومن الرؤية الترانزيستورية للعالم، تجعل القصة( شعر السرد) إذا سمح لي بالتعبير. غير أن هذا كله ليس إلا ملمحا من ملامح القصة، لعله ملمحها الظاهر على السطح، أما الملمح الجوهري الكامن في نصوصها الممتازة كمون النار في العود، لا يشيمه إلا قابس( قارئ) خبير، فهو الإحساس الوجودي الحاد بالنقص: في الجمال و الحق و الخير: قيم الثقافات القديمة. في المعلومة و الحاجة و السلعة: قيم الثقافات الحديثة. الإحساس الحاد بالضالة و الضحالة، بالتفاهة و السخافة، بالعبث و اللامعنى، و الشك المرضي في الخطابات، كل الخطابات، و في الأنظمة و الأنساق المكتملة، و في البداهة و الشفافية، و العزوف المتوحد الأبي عن العلاقة، أو العاطفة أو «الذوق السليم» أو الطبيعي و السوي و الضروري و المألوف، إلى آخر المفاهيم التي تبنين الثقافة البورجوازية. يقولون إن الرواية ملحمة البورجوازية، حسنا، القصة هي ملحمة الفرد.. الفرد المنسحق/الواعي بانسحاقه. القصة فن غسقي، فن الغروب و البرد و الوحدة. القصة فن الموت. و الكتاب الراضون، أو المندمجون، أو الموقنون أو الآملون... لن تفيدهم اللغة و لا التجربة و لا النية الطيبة في كتابة القصة، ربما كتبوا قصة، لكنهم لن يكتبوا القصة. هل نحن في زمن الرواية أم زمن القصة ؟ لكل جنس أدبي أصحابه، منتجين ومستهلكين، والعبرة في هؤلاء الأصحاب ليست بالكم بل بالكيف. أما عن زمن القصة وزمن الرواية، فتلك كلمات يلعب بها نجوم الصحافة الثقافية، لا معنى لها إلا ما يحققه اللاعبون بها من المجد الثقافي البائس. كيف ترى القصة الفصيرة المغربية ( ملامحها، موضوعها، رؤيتها..) ؟ القصة القصيرة بالمغرب ( أتحفظ على عبارة : القصة القصير بالمغرب) تطورت على مستويين على الأقل: المستوى الأول: مستوى تاريخي، فبعد ارتباطها بالهم الوطني الرومانسي قبل الاستقلال، ارتبطت بالهم الاجتماعي والإيديولوجي بعده، ثم بالهم الفني والتجنيسي، وأخيرا بالهموم الشذرية الدقيقة للكاتب، كشيء ورقي مطروح في سلة العالم. المستوى الثاني : مستوى التقنيات الفنية، وأعتقد أن النصوص القصصية الجديدة تحفل بكثير من التقنيات المستنبتة من بذور مختلفة المصادر، بعضها تقبله القصة دون مضاعفات، وبعضها ترفضه، فلا ييأس ويعاود التجربة. ماذا تريد القصة أن تقوله أو تعبر عنه؟ لا أدري، لعلها تريد أن تقول نفسها لا أكثر.