تجربتي مع النص الأول كيف نأتي إلى فخاخ الكتابة أوكيف تأتي غواية الكتابة إلينا؟ يحيرني هذا السؤال الوجودي المبهم والغامض.. من يشد رحاله إلى عوالم الآخر، أهي الذات إلى الكتابة أم الكتابة إلى الذات؟ هل الكتابة تشبه تلك السيدة الساحرة التي تقتنص عشاقها المصطفين على أرصفة الصدفة ، مثلما كان شهرياريختارمن جواريه كل ليلة واحدة لتحكي له على حافة السريرحكاية تحمله إلى ضفة الغفوة اللذيذة؟ الكتابة ليست مطرا عاصفا يبلل كل العابرين في شارع الحياة العامة.. هي ليست شمسا تشع على كل من تعلق بأهذاب أشعتها العذبة .. هي ليست كذلك بحرا نمضي إليه عراة عن طواعيتنا لكي نغطس عميقا مع كائناته الصموتة في الخلجان والأغوارالملغزة .. الكتابة ليست طوفانا لا مرئيا قد يأتي إلينا في يوم ما فجأة ليطوح بنا بعيدا في غياهبها وتبعاتها .. أفراحها وأحزانها .. أصفادها وحريتها ... الكتابة أخيرا ليست كل هذا في رأيي، لكنها قد تكون كل هذا في رأي كاتبات وكتاب آخرين .. هكذا أتخيل الكتابة الآن على بعد 30 سنة خلت من تورطي في تجربة النص الأول... كل فخاخ هذا السيناريو وأحابيله الماكرة كان القدر قد جهزها في الخفاء وفي العلن أيضا.. في الغيب كما في الوجود.. هي حزمة مواثيق مع القدر وجدتها جاهزة على طاولة مفاوضاتي العسيرة مع النص الأول.. منها ما بصمت عليها بأصابعي العشر، وبعينين جاحظتين ووعي وقاد، ومنها ما كانت علي قدرا جبريا لا مفر منه.. كيف حدث ذلك في أحد أيام صيف سنة 1976؟ أذكر تلك التفاصيل العامة جيدا كما لو أنها تحدث أمامي الآن... فبعد أن لقنني أحد أقران الثانوية النجباء الذي قلب فيما بعد «المعطف»أعني بالعرنسية (الفيستا) من شاعرشاب واعد كان ينشر قصائده في المجلات العراقية ( الأقلام الطليعة الأدبية ..الثورة .. الفنون .. إلخ) التي كان سعرها زمنئذ لايتعدى 2 درهم مغربي في عهد الثورة النفطية السبعينية ، فجأة تحول هذا الشاعر الواعد إلى شاب سلفي ملتح أواسط الثمانينات منقلبا ب 180 درجة من قبلة الإبداع الشعري الدافق إلى قبلة الكعبة المشرفة شرقا .. إنه بكل تأكيد من يرجع له الفضل في تلقيني لعبة تقطيع الأبيات الشعرية العمودية إلى حركات وسكنات وقوافي وأقفال.. حتى بات هذا التقطيع في أوقات فراغ يومياتي لعبة مسلية تشبه إلى حد ما لعبة من لعب الذكاء عند الأطفال التي تعتمد على تفكيك ثم تجميع جهازاللعبة .. بعد ذلك شرعت أنشئ أبياتا قليلة على أوزان البحورالسهلة مثل الرجزوالبسيط والرمل ... وفي لحظة ما وجدتني منقطعا لفترة غير يسيرة عن العالم الخارجي .. منعزلا في خلوة «صوفية» ومنكبا بنهم على كتاب ''ميزان الذهب» لخليل ابن أحمد الفراهيدي الذي أعارني إياه أستاذ مادة اللغة العربية في الفصل الأول من التعليم الثانوي بمؤسسة عمربن الخطاب ، ثم فيما بعد قادتني طريقي الشعرية الإستكشافية هاته إلى قراءة العديد من الدواوين الشعرية لمحمد الفيتوري ونازك الملائكة وبدرشاكرالسياب وأدونيس ومحمود درويش ووأحمد دحبوروغيرهم من رواد الحداثة الشعرية العربية ولعل أهم تلك الدواوين تأثيرا في حياتي الإبداعية الأدبية في تلك المرحلة ، كان مجلد الأعمال الشعرية الكاملة للشاعرالسوري نزارقباني الذي استعرته لعدة شهورمن المكتبة العامة بالجامع الكبير بحومة قبة السوق. لقد كان هذا المجلد يضم مجموعة من الدواوين المتوسطة حجما مثل (أنت لي ، سامبا ، الشعرقنديل أخضر، قصائد متوحشة..)، ومن كثرة ما سحرتني شعريته وقاموس لغته الحداثية وموضوعاته الحميمية .. الجريئة والمنسجمة وقتئذ مع أحاسيس مرحلتي الشبابية، صرت مدمنا على قراءته حتى ألفيتني أقطع كل يوم مسافة نصف ساعة مشيا على الأقدام من بيتنا إلى حومة قبة السوق بالمدينة العتيقة لألتحق بمكتبة الجامع الكبير إلى درجة أصبح الأستاذ الجليل عبد السلام البراق متعهد المكتبة وقتئذ كلما لمحني مشرئبا برأسي من أعلى الأدراج، حتى ينصرف إلى مستودع المخطوطات والمجلدات والكتب المتواري عن قاعة المطالعة ويأتيني بخفة ظله المعهودة بمجلد نزار قباني، من دون أن أكون في حاجة إلى تعبئة مطبوع الزيارة مثل باقي الرواد والزوار من الأساتذة وطلبة الجامعة والعشاق الباحثين عن رسائل تلين قلوب حبيباتهم... وقبل هذا وذاك كنت أيضا في أواسط الستينات حفاظا بارعا ومتذوقا ممسوسا بأشهر الأغاني المغربية والعربية المطولة والقصيرة من أشعار محمد الطنجاوي والخمارالكنوني والمهدي زريوح، ولعلني أذكر الآن بالخصوص أغنيتي الأطلال للسيدة أم كلثوم والقمرالأحمر للموسيقار عبدالسلام عامر، هاتان الأغنيتان اللتان كانت آلة ''المانييتوفون'' في بيتنا والتي تشبه حقيبة يدوية رمادية ثقيلة لا تتوقف عن الشذو بهما طوال النهار، وخصوصا في أيام الآحاد حيث تكون الدار الكبيرة صاخبة ورافلة في رغد «الويكاند» وحيث يلتئم بين حيطانها الأنيسة والدافئة كل أفراد العائلة بعد أسبوع من العمل عند الكباروالدراسة عند الصغار. وفي غفلة مني كانت تربة الكتابة تختمر سرا شيئا فشيئا في أعماق نفسي وتهيئ وحيها القادم إلى يوم الخلق الموعود.. وحدث ما كان لابد أن يحدث في سيرتي، كما لو أن هذا المسار كان يستلهم صيرورته وتحولاته من قانون النشوء والارتقاء والتطور الطبيعي لجميع الأحياء على أديم الأرض، مادام الأمر هنا يتعلق أيضا بكائن حي له روح وجسد وأنفاس إنه «النص الأدبي» ... وفي ليلة من ليالي صيفنا المكناسي القائظ من سنة 1976 بعد أن تمكنت من لعبة التقطيع العروضي، فكرت فجأة أن أجرب حظي في زرع أول بذرة في حدائق الشعر.. لا يتعلق الأمر بقرار لحظي يحتمل ضمن ما يحتمل شروط اليقظة والوعي .. وإنما كما قلت هو ارتقاء من الطقس الجواني الجاف المحتقن إلى فصل الأمطار والعواصف والرياح المخصبة. أذكر أنه أصابني أرق حاد في تلك الليلة القائظة .. أطفأت نور المصباح الكهربائي وفي عتمة الغرفة ولتجزية وقت السهاد واجتذاب غفوة النوم عدت إلى لعبة التقطيع ذهنيا هذه المرة وطفقت أنظم أبياتا عمودية على وزن البحرالطويل (فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن ... فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن ) حتى بت كلما نظمت بيتا أحفظه عن ظهر قلب، ثم أعيد اللعبة من جديد لنظم البيت الموالي... بت مثل عنكبوت أو مثل دودة القز أروح وأغدو على رقعة القماش في عملية نسج جيئة وذهابا طيلة الليلة، كانت عملية ممتعة ومرهقة ذهنيا وتقنيا أيضا نظرا لاقتعاد نظم القصيدة العمودية بالأساس على احترام قواعد الوزن من حركات وسكنات وقافية وتناسق الصوروالأخيلة في الصدركما في العجزبشكل دقيق. لم تسعفني هذه اللعبة في أن أنعم بوسنة لذيذة وإنما أذكت نار أرقي أكثر فأكثر، ووجدتني مستغرقا في مغامرتي النظمية اللذيذة حتى مطلع الفجر، من دون أن أعلم بأي مصير أو أي شاطئ ينتظر زورق قصيدتي الهائمة في انسيابها التلقائي وحتى من دون أن أحدد أفق انتظار يرسم ملامحها الأولى والتي أعتقد الآن أنها أتت إلي مداهمة كنوبة صرع مفاجئ .. وأتخيل اليوم بكل تأكيد أنني لم أمضي إليها مستكشفا.. جسورا ومتطفلا إطلاقا.. كانت القصيدة الأولى ضربا من الإلهام ووحيا في الهزيع الأخير هابطا من عتمة السهاد.. كل ما أستطيع أن أجزم بوعي وجوده في تلك اللحظة هوأن كل شروط الخلق النفسية والثقافية والإجتماعية كانت جاهزة ومساعدة بسخاء أكثرعلى تفجيرإعتمالات ذاتي في بنية إبداعية هلامية إنصهرت ثم إنفجرت في ليلة ما من ليالي العمرعلى هيأة قصيدة عمودية من ثمانية عشربيتا ليس إلا وهذا كل مااستطعت واكتفيت به كهدية في صندوق الأرق، وهو إنجاز بدا لي وقتئذ خارقا في بدايات سيرتي الأدبية لن أنساه مدى العمر. ماتزال تلك الصورالشعرية التلقائية المفعمة براءة تعبر قافلتها أمامي الآن.. هلامية أحيانا مثل خيوط دخان قزحية وأحيانا أخرى مثل لوحات رسام شاب حالم لم تسعفها جدارة اليقظة والوعي على التحقق في الزمان والمكان. وأذكر في صباح ذلك اليوم التاريخي الموعود.. قمت وحررت قصيدتي التي عنونتها ب''همسات اللقاء'' على ورق دفتر وحلقت بها كعصفور مرح، نشوان بشذوه إلى رفيقي الشاعر وأطلعته على باكورتي الشعرية الأولى .. وما أسعدني في تلك اللحظة أنني لمحت في قسماته انبهارا وإعجابا وهو يقرأ ويعيد قراءة قصيدتي البكر في صمت وتأمل. وباقتراح منه قمت في نفس اليوم وبعثت بقصيدتي هاته إلى البرنامج الإذاعي ''ناشئة الأدب'' الذي كان يشرف على إعداده الشاعر الأصيل المرحوم إدريس الجاي''. لا أذكر ماذا كتبت في التقديم ولا أية عبارات شكر إنتقيتها ونثرتها في خاتمة الرسالة ، كلما أذكره الآن هو أنني صرت أستعجل يوم بث البرنامج في يوم الأربعاء القادم. مر الأسبوع الأول خاطفا وبطيئا في نفس الوقت .. لست أدري كيف مرت غيمته الحبلى ، وفي يوم الأربعاء من الأسبوع الثاني تسمرت مساءا قرب المذياع الوحيد في بيتنا وتحلق من حولي أفراد أسرتي وصديقي الشاعرأيضا وكم كانت المفاجأة مثل الرجة العذبة أومثل أجمل الزلازل الجوانية التي تهدم عوالم الدواخل لتبدأ فتنة خلقها من جديد وأنا أستمع إلى صوت المذيعة وهي تنبس باسمي وعنوان قصيدتي ''همسات اللقاء'' ثم شرعت تتدفق نغمات السمفونية المرافقة مشفوعة بصوتها الرخيم الصادح بتلك الأبيات الغريبة التي تفتقت في عمق الظلام .. كنت مخذرا .. مبنجا ومرفوعا على صهوة الموج الجموح .. قشعريرة تسري في كل أوصالي .. وتياركهربائي يلسعني في كل زوايا جسمي .. صدري ممتلؤ ببالون من أنفاس غريبة ومصطخبة .. لم أصدق أن إسمي المغمور النكرة، سيدخل مبنى دار الإذاعة المركزية من أوسع باب.. لم أصدق أن شاعرا في هذا البيت بل في هذه الحارة السفلى قد ولد تلك الليلة من رحم العتمة ومخاض الأرق. كانت إذن تلك هي بداية غوايتي الشعرية وورطتي الأدبية وهوسي الثقافي بشكل عام، وإلى الآن ما أزال أطرح السؤال: لو لم تنشر قصيدتي الأولى ''همسات اللقاء'' على أمواج الإذاعة المركزية في تلك الأمسية من سنة 1976 ولو لم يكن هناك أب عطوف على زمرة الشعراء الشباب من جيلي مثل محمد الطوبي ورشيد اليحياوي وغيرهما، هو الفقيد إدريس الجاي، هل كنت سأكون ما أنا على صورته اليوم ككاتب فاشل أو كاتب ناجح أو كاتب دخيل أو كاتب لقيط ثقافيا... لاتهمني اليوم كل الأوصاف والنعوت الجميلة منها أو العدوانية.. ولا النياشين على الصدر أو الصفعات على قفاي بعد أكثر من ثلاثين سنة.. أفخر كثيرا أنني كاتب مقل جدا جدا .. في رصيدي اليوم رواية ومجموعتان قصصيتان وبعض قصائد وعشرات المقالات في الترجمة والنقد الأدبي والإعلام والأدب الرقمي، وبرفقتي قلة من الأصدقاء المبدعين الجميلين، والجواب هو: لست أدري! ياليتني كنت نسيا منسيا .. جاهلا أنعم في شقاوتي، لربما أفضل من كوني كاتبا أشقى في نعيم الكتابة في أمة «إقرأ» لكنها لا تقرأ.