أخذت مكاني في قطار الصّباح، من تونس إلى صفاقس. الرّحلة طويلة. سأنام قليلا؛ فقد هدّني السّهر؛ وأنا مُقْدم على يوم حافل مزدحم بالعمل.. ثمّ ينطلق القطار؛ وقبل أن أُسْلم نفسي للرّقاد، أتملّى وجوه الرّكّاب بعينين مشقّقتين تكادان تطبقان؛ أمامي مقعدان خاليان، وإلى يميني رجل في مثل عمري.. عمري ستّون سنة، وإن كان أصحابي يؤكّدون أنّي أبدو دون ذلك بكثير؛ وأنا أَدْرَى بحالي، ولكنّي أداري، فقد برح البرد بمفاصل الرّجل الجالس إلى جانبي جاء إلى مقعده يتوكّأ على عكّازين، يسنده فتًى أرخى له ظهرَ مقعده وسوّى له ساقيه، وهو يقول: بابا، لا تنس ولا تغفل، لا تَثْنِ رجليك؛ ستجد عثمان في انتظارك، ثمّ قبّله وانصرف نازلا؛ والتفتَ الرّجل ناحيتي، وهو يقول: هذا ابني؛ إنّه شديد الحرص عليّ؛ وتصنّعت الابتسام، وقلت: وَلَدٌ صالح؛ أطفالي أيضا كذلك، يحرصون عليّ مثل أخ صغير؛ ثمّ أطبقتُ أجفاني وشردتُ مع أفكاري، وأنا أحاذر أن أشخر كعادتي كلّما نمتُ على تعب أو شبع أو شراب كثير؛ ثمّ رتّبتُ الحلم الذي سأحلم؛ فأحلامي لا تأتي على عواهنها مثل أحلام سائر النّاس؛ فأنا الذي أختار لها ميادينها؛ ثمّ أرخي لها العنان، تشرّق أو تغرّب.. سأعود هذا الصّباح إلى أحلام طفولتي؛ فقد غفلتُ عنها طويلا، وشغلتني أشياء الحياة، كبيرُها وصغيرها، حتّى نسِيتها، كأنّي جئتُ إلى الدّنيا في الستّين.. والرّجل الجالس إلى يميني يَكِزُني بلطف:أنت تشخر؛ أرْخِ رأسك قليلا؛ وأُرْخِي رأسي؛ وأعود إلى حلمي حيث توقّف؛ والرّجل يَكِزُني ثانية ويقول:أنا أيضا أشخر كثيرا؛ وزاد شخيري بعد عمليّة جراحيّة على ركبتي اليمنى؛ ثمّ زاد أكثر بعد عمليّة أخرى على اليسرى؛ قلتُ متعجّبا: وما دخْلُ الرّكبة في الشّخير؟، فنظر إليّ متعجّبا أيضا وقال: والله، أنا نفسي لا أعرف، والطّبيب لا يعرف... يبدو أنّ الشّيخوخة تبدأ بالرّكبة، ثم تتسلّل إلى باقي الجسد؛ قلتُ: وما دخل الشّيخوخة في الشّخير؟ أنا أشخر مذ كنت طفلا صغيرا؛ فقال متعجّبا: والله لا أدري. الطّبيب يقول؛ وقلتُ، أهوّن عليه وعلى نفسي: ولكنّك مازلت في عزّ رجولتك؛ مازالت الشّيخوخة بعيدة؛ فابتسم بمرارة، وهو يسوّي أربطة سميكة ملفوفة إلى سراويله، تشدّ ركبتيه: هه! هه! أنا أجاهد، ولكنّي أعرف أنّي سأكمل بقيّة أيّامي في كرسيّ متحرّك؛ أنت لا تعرف البرْد وأمراض المفاصل؛ فهيّج أشجاني وتكدّرتُ لكلامه ولعنتُ الحظّ السّيّء الذي جاء به إلى جانبي... وطفق الرّجل يشخر بصوت مرتفع، حتّى لتَكاد اليد تلمس شخيره؛ وشردتُ مع أفكاري وأحلامي، حتّى أخذني النّوم؛ وأنا في عزّ نومي، تربّتُ يدٌ على كتفي: يا عمّ، لقد وصلنا إلى صفاقس؛ وشققتُ بصري، أنظر حولي، فإذا العربة خالية من ركّابها؛ المقعدان أمامي خاليان، والمقعد إلى جانبي خالٍ، وأنا وحدي في العربة؛ وهممتُ بالوقوف، فصرخت من شدّة الألم، وانكفأت على وجهي، أكاد أسقط، والرّجل الذي أيقظني، يتلقّفني: يا عمّ، خذْ عكّازيك، ولا تثنِ ركبتيك؛ هل ثمّة على الرّصيف من ينتظرك؟ ثمّ ناولني عكّازيْ الرّاكب الذي كان إلى يميني.