التأقلم مع مناخ متغير في الدول العربية تجتهد كثير من المنظمات والهيئات وفعاليات المجتمع المدني والباحثين لتشخيص وتفسير ظاهرة تغير المناخ بغية إيجاد وسائل وآليات مكافحة تأثيره وتأقلم الساكنة المتضررة من انعكاساته السلبية. ويعزى هذا التحول المناخي والاحتراز العالمي حسب الكثير من العلماء إلى النشاط الإنساني والتطور الصناعي من خلال زيادة استهلاك الساكنة المتزايدة للموارد الطبيعية والطاقة والغابات ثم تلوث البيئة والفقر والهجرة ... «التكيف مع مناخ متغير في الدول العربية» هو تقرير أعد من قبل البنك الدولي بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا حول تغير المناخ، يضم أبحاثا مختلفة أجابت عن كثير من النقط المؤرقة، حررها، بالاشتراك مع جامعة الدول العربية، خبراء وباحثون حاولوا سبر أغوار هذه المعضلة ثم وصف الخيارات المطروحة للسياسات العامة، مع توفير منظور شامل للآثار الناجمة عن تغير المناخ وانعكاس ذلك على سبل كسب العيش والأحوال المعيشية للفئات الفقيرة بالإضافة إلى طرح توصيات بشأن سياسات الدول العربية. واعتمد الفريق المعد للتقرير على مقاربة تشاركية همت مجموعة عريضة من الأطراف المعنية بالمنطقة، بغية استجلاء منظور شامل للآثار الناجمة عن تغير المناخ، وكذا توفير معطيات حول التغيرات المناخية المحتملة في المنطقة، وتوفير إرشادات إستراتيجية بشأن كيفية تكيف المنطقة مع هذه التغيرات. وحول هذا التقرير عقدت الجمعية الوطنية للتنمية المستديمة وحماية الحياة البرية، مؤخرا، ورشة عمل حول التغيرات المناخية في العالم العربي بالعاصمة التونسية تحت إشراف وزارة التجهيز والبيئة التونسية وبتعاون مع البنك الدولي ودعم الصندوق العالمي للتنمية الفلاحية (FIDA) وذلك بغية عرض ودراسة نتائجه من طرف خبراء وباحثين عملوا على صياغة فصوله العلمية. وأفاد صادق العامري كاتب الدولة، مكلف بالبيئة، لدى وزير التجهيز والبيئة أن البيئة والموارد الطبيعية بالوطن العربي شهدت منذ نصف القرن الماضي ضغوطات كبيرة من حيث الكثافة السكانية والتنمية الحضرية ونمط التطور الاقتصادي المعتمد على المستوى الدولي .. وتمثل التغيرات المناخية تحديا بيئيا كبيرا تؤثرا على العناصر الأساسية لحياة شريحة كبيرة من الساكنة بمختلف مناطق العالم خصوصا الولوج إلى الماء والإنتاج الغذائي والصحة فضلا عن البيئة. إذ يعاني مئات الملايين من الأفراد من المجاعة والخصاص المائي والفيضانات الساحلية هذا مع احتراز المتزايد للكوكب الأرضي. واستشهد العامري ببعض نتائج أبحاث المجموعة الدولية لتطور المناخ (GIEC) المؤكدة على التحول المنتظر لمستوى الحرارة بالدول العر بية، ما بين 3 درجات إلى 4 درجة في نهاية القرن 21. وفي هذا السياق يضيف العامري أن التقرير موضوع الورشة يشهد على خطورة عدم الانتظام المناخي وتأثريه على البيئة والصحة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وأكد يوسف السعداني مدير عام الغابات على وجوب تربية الساكنة على مفهوم تغير المناخ والتأقلم معه والعمل بشراكة وفق مشاريع التعاون التقني المنظمات الدولية والاستماع لما يجري في العالم في الموضوع. وأضاف السعداني أن الغابات بتونس تعد إحدى أهم روافد تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، حيث تغطي ثلث مساحة البلاد أي ما يعادل مليونا و230 هكتارا وهو ما يعطي نسبة غطاء غابوي بقرابة 12.3٪ مشيرا إلى الإستراتيجية المعتمدة والرامية إلى ضخ حيوية متجددة على قطاع الغابات من خلال مجموعة من المجهودات الهامة للحفاظ على هذه الثروة الطبيعية. وتحدثت تمارا ليفين، مستشارة البنك الدولي، عن أسباب تغير المناخ بالمنطقة مؤكدة على الاختلاف الطبيعي، كسمة من سمات المناخ، مع تأثير انبعاثات الغازات الدفيئة الماكثة ولفترات طويلة بالجو كسبب رئيسي من أسباب التغييرات التي نشهدها حاليا، مستشهدة بتقرير التنمية في العالم لسنة 2010 حيث «يتم تحديد مناخ الأرض من الطاقة القادمة من الشمس، و تشع الطاقة الصادرة من الأرض، وتبادل الطاقة بين الغلاف الجوي والأرض والمحيطات، والجليد، والكائنات الحية. تكوين الغلاف الجوي له أهمية خاصة لأن بعض الغازات والرذاذ الجوي (الجزيئات الصغيرة جدا) تؤثر على تدفق الإشعاع الشمسي الوارد والأشعة تحت الحمراء الصادرة» . وتؤكد الدكتورة روضة قفرج، مهندسة مياه بالمدرسة الوطنية للمهندسين بتونس وأحد مؤلفي التقرير، أن شح المياه بالمنطقة العربية يعد تحدياً كبيرا، حيث تتوفر المنطقة العربية على أقل الموارد الطبيعية للمياه العذبة في العالم، ذلك أن جل الدول العربية تعاني من قلة المياه باستثناء ستة منها (جزر القمر، العراق، لبنان، الصومال، السودان، وسوريا)، حيث لا يحصل الفرد سوى أقل من 1000 متر مكعب من المياه في العام. وتشير التقديرات إلى أن تغير المناخ سيقلل من تدفق المياه بنسبة 10% بحلول عام 2050. في حين تشهد المنطقة عجزا مائيا حيث يفوق الطلب العرض ويتزايد عدد السكان مع المتطلبات الفردية من المياه مما سيقود، حسب التقديرات، نحو مزيد من الارتفاع في نسب الطلب بنسبة 60 في المائة بمطلع سنة 2045. هذا وسيؤثر التغير المناخي على الإنتاج الزراعي والقطاع السياحي حيث سيتناقص معدل الزيادة في الإنتاج الزراعي على مدى العقود القادمة. وتناول التقرير نسبة الزيادة في حدوث الفيضانات السريعة في المدن في مختلف أنحاء المنطقة العربية نتيجة لازدياد كثافة هطول الأمطار، وانتشار الأسطح الخرسانية التي لا تمتص الماء، وقلة ونقص كفاءة شبكات الصرف الصحي وانسدادها، وزيادة البناء في المناطق ذات الانحدارات المنخفضة والوديان. وقد تضاعف عدد السكان المتضررين من الفيضانات على مدى السنوات العشر الماضية ليصل إلى 500,000 شخص في مختلف أنحاء المنطقة العربية. وسيشمل تأثير تغيّر المناخ قطاع السياحة الذي يعد مصدراً مهماً للموارد وتوفير فرص الشغل، حيث تصل عائداته، في المنطقة العربية، ما يناهز 50 مليار دولار أمريكي سنوياً ، حوالي 3 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي. ولم يغفل التقرير الإشارة إلى تأثير تغيّر المناخ على مقاربة النوع الاجتماعي من حيث المساواة بين الجنسين و دور كل من المرأة والرجل في المجتمع ذلك أن نساء القرى أكثر تأثراً من الرجال. وسيكون لتغير المناخ تأثيراً كبيراً على أساليب العيش وكسب الرزق في القرى. فهجرة الرجال إلى المدن للبحث عن الشغل ترغم المرأة القروية على تحمل عبئ الأشغال المنزلية والمزروعات المعيشية وتربية المواشي. كما تطال تأثيرات تغير المناخ صحة الإنسان حيث يؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة و انتشار سوء التغذية وزيادة احتمالات الأمراض المرتبطة بالقلب والإصابات بالأمراض المفضية للوفاة وحدوث السكتات الدماغية هذا فضلا عن تعرض التجمعات السكنية لأمراض خطيرة كالملاريا وحمى ..بفعل الحشرات الناقلة للأمراض، مثل البعوض.. يذكر أن التقرير قدم خريطة طريق تهم التأقلم مع تغير المناخ إلى صانعي السياسات في البلدان العربية.حيث رسم هرم التكيف حول كيفية المضي قدما في جدول الأعمال الإجراءات المزمع اتخاذها، وقدم تصنيفا لنهج السياسات ذات الصلة بالمنطقة والتي تمكن من الاستجابة للسياسات الفعالة لصانعي القرار، ثم عرض توصيات السياسات الرئيسية لكل فصل من الفصول. وتضمن التقرير، ضمن ثمان فصول، كلا من المحاور التالية: «تغير المناخ يحدث الآن»، و»تأثر السكان في البلدان العربية «، و «مستقبل الدراسات المناخية» ثم» إدارة مخاطر الكوارث» و»الآثار المتوقعة لتغير المناخ على الموارد المائية» و»تغير المناخ يهدد الأمن الغذائي وسبل كسب العيش في المناطق الريفية» و»تأثير تغير المناخ على سبل كسب العيش والأحوال المعيشية في المناطق الحضرية» و»التكيف مع تغير المناخ بما يراعي احتياجات المرأة: ضمان تحقيق الفاعلية والاستدامة « و»تحسين الصحة في مناخ متغير»، وكذا» اتجاهات السياسات وإجراءات التكيف التي يوصي بها هذا التقرير». يشار إلى أن إعداد تقرير «التكيف مع مناخ متغير في الدول العربية» تم بدعم وتمويل كل من: مؤسسة التعاون التنموي الإيطالية، والاتحاد الأوروبي، والصندوق الدولي للتنمية الزراعية، وجامعة الدول العربية، ومكتب منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ووحدة الشؤون البيئية بالبنك الدولي.