قراءة في «بلاغة الالتباس» لمحمد بهجاجي ثمة كتاب نحبهم فقط من خلال ذلك الأثر الجميل الذي تتركه كتاباتهم في وجداننا وفي ذاكرتنا، فتكون نصوصهم بمثابة رسائل لغوايتنا كقراء ولتبوئهم مكانة خاصة في قلوبنا، لأن الذين نحبهم نقرأهم بقلوبنا وعقولنا في آن واحد. ولن أكشف سرا إذا قلت إن محمد بهجاجي، بالنسبة إلي، واحد من هؤلاء. فقراءتي لإسهاماته النقدية والإبداعية ولمقالاته الصحفية منذ ثمانينيات القرن الماضي جعلت من الرجل صديقا رمزيا بالنسبة إلي، ساهمت ظروف تقاطعنا في المشهد المسرحي المغربي في تحويل هذه الصداقة الرمزية إلى محبة متبادلة مافتئت التفاعلات واللقاءات المتواترة بيننا أن رسختها في اتجاه التواطؤ على الفعل الثقافي الجاد والتعاطي مع إسهامات كل واحد منا بمزيد المحبة والتقدير والاعتراف المتبادل. في هذا السياق، أجدني، اليوم، في غمرة النشوة وأنا أسعد وأتشرف بتقديم إصداره الجديد «بلاغة الالتباس: قراءات في المسرح المغربي» الصادر عن دار النشر المغربية في طبعته الأولى سنة 2012. ولعل أول ما يسترعي الانتباه عند تأمل موقع هذا الكتاب الجديد في صيرورة الحضور الثقافي الوازن لمحمد بهجاجي في مشهدنا المسرحي، هو هذه المسافة الزمنية التي تفصله عن الإصدار النقدي الأول المعنون ب «ظلال النص: قراءات في المسرح المغربي» الذي سبق للكاتب أن أصدره عن نفس الدار سنة 1991. إن مسافة عقدين من الزمن بين الكتابين على صعيد النشر قد تقرأ بالنسبة للمهووسين بمراكمة العناوين باعتبارها غيابا رمزيا للرجل عن الفعل النقدي في مشهد ارتفعت وتيرة إصداراته النقدية المسرحية بشكل مطرد خلال العقد الأخير. لكن القراءة الفاحصة لهذه المسافة بين الكتابين والمعرفة العميقة بمحمد بهجاجي تكشف عن كون الأمر يتعلق، أولا، بفاعل ثقافي متعدد المواهب، نقدا وإبداعا، فرض عليه موقعه المهني باعتباره أحد أبرز أقطاب الصحافة الاتحادية أن يكون في خدمة الآخرين وأن يتوارى خلف الستار كي يبرز الآخرون. فعمله في القسم الثقافي لجريدة «الاتحاد الاشتراكي»، وقبلها في جريدة «المحرر» بوّأه مكانة خاصة جعلت منه إحدى المنارات التي اهتدى بها العديد من النقاد والكتاب الشباب، لكنه، بالمقابل، فرض عليه تأجيل مشاريعه الخاصة، وربما التخلي عن بعضها، وأذكر هنا بالخصوص أطروحته لنيل الدكتوراه التي كان يهيئها تحت إشراف أستاذنا جميعا الدكتور حسن المنيعي. وبغض النظر عن هذا المعطى الموضوعي، فالقارئ للكتابين معا من زاوية تواريخ الدراسات والمقالات والأوراق الموجودة بين دفتيهما، سيقف، لا محالة، على حقيقة أن الرجل لم يتوقف يوما عن الكتابة والمتابعة النقدية لمسيرة مسرح ظل وفيا لعوالمه وقضاياه وإبدالاته ورجالاته، هو المسرح المغربي. من ثم، فلا عجب أن نجد العنوان الفرعي للكتابين معا هو «قراءات في المسرح المغربي». فبهجاجي منخرط وجدانيا في مسار هذا المسرح، أبدع فيه نصوصا قوية منها: «البتول»، «العيطة عليك»، و»الجنرال»، وهي الأعمال التي قدمها له «مسرح اليوم» بإخراج الفنان عبد الواحد عوزري، كما كتب عن رجالاته وعرف بهم وبأعمالهم، ومارس حقه في نقد تجاربه في الكتابة وفي الفرجة، وساهم في جعل المنبر الصحفي الذي يشتغل فيه بؤرة لتقاطع مواقف وأفكار وحساسيات مسرحية مختلفة ساهمت في تأثيث المجال النقدي وخلق حركية فكرية قوية حول مسرحنا المغربي. من ثم، فإن ما يثير الانتباه في كتاب «بلاغة الالتباس» هو هذا الحضور المتعدد والمركب لشخصية صاحبه. فعندما نقرأه، نشعر أننا أمام مبدع ناقد، وصحفي متمرس، وكاتب سيرة محنك، ومؤرخ للتجارب، وموثق مدقق للتفاصيل والتواريخ، وراسم بروفيلات حاذق، وشاعر رائق. وعليه فالكتابة، عنده، لا تتخذ لبوسا نمطيا واحدا، بل هي تتخذ لنفسها الحلة التي يقتضيها المقام، احتفاء كان أو تأسيا، لكن يبقى، مع ذلك، عطرها الرفيع فواحا كلما قرأتها في شكل نقد أو شهادة أو قراءة لتجربة، لاسيما وأن بهجاجي في هذا الكتاب يبدو متحررا من سطوة المفاهيم والمرجعيات النقدية التي سبق له أن أحال عليها وجربها في كتاب «ظلال النص»، وقريبا أكثر من كتابة ذاتية حميمية تستبطن المقاربات وتميل نحو نقد قريب من البوح. إن الكتابة النقدية عند بهجاجي في كتابه «بلاغة الالتباس» تقف على ثلاثة مدارات هي: الحواس، الذاكرة والوجدان. ولتسليط الضوء على هذا الجانب، لا بأس أولا، من استعراض محتويات الكتاب. تتوزع نصوص كتاب «بلاغة الالتباس» إلى قسمين، أحدهما مخصص للقراءات، والثاني للشهادات. في جانب القراءات يقف بهجاجي عند مجموعة من الأعمال المسرحية، نصوصا وعروضا، من بينها «خلقنا لنتفاهم» للطيب الصديقي، و»قاضي الظل» لعبد اللطيف اللعبي، و»أيام العز» ليوسف فاضل، و»المصطبة» لجواد الأسدي و»نومانس لاند» لمحمد قاوتي، كما يقوم بقراءة بعض التجارب في الممارسة المسرحية منها على الخصوص تجربة الفنانة القديرة ثريا جبران، أو بعض التجارب في الكتابة التاريخية والنقدية عن المسرح المغربي، منها على الخصوص تجربة عبد الواحد عوزري في كتابه «المسرح في المغرب، بنيات واتجاهات». وفي القسم المخصص للشهادات، يقدم الكتاب أوراقا كتبت في سياقات مختلفة عن رموز مسرحية مغربية غيبها الموت منها: محمد الكغاط، مصطفى سلمات ومحمد سكري. إن القارئ للكتاب، يشعر، وهو ينتقل بين مفاصله، أن بهجاجي لا يكتب إلا عن الذين عشق تجاربهم أو قاسمهم الحب والمشاعر الإنسانية الفياضة. لذلك، فهو يتعامل مع الممارسة النقدية باعتبارها جزءا لا يتجزأ من ذاته العميقة، وبالتالي، فهو يكتب بحواسه أو بذاكرته أو بوجدانه. وفي كل مرة نجد أنفسنا، كقراء للكتاب، أمام تنويعات في الخطاب وتلوينات في اللغة، تتأرجح بين التحليل والتأويل وتفكيك الالتباس والتوثيق والشهادة والاحتفاء والتأسي، وغير ذلك مما يستلزمه سياق الكتابة. فبهجاجي قارئ للنصوص ومشاهد للعروض، وقوة ما يكتبه عنها تكمن في كونه يستعمل حدسه الصحفي ومراسه المنتظم في الكتابة ليلتقط ما انطبع في حواسه حول ما قرأ أو شاهد في اللحظة الطازجة ويدونه، من تم تتحول كتابته عن النصوص والعروض إلى مزيج من القراءة والشهادة على لحظة مسرحية ما، في آن واحد. لكن، عندما يتعلق الأمر بتجربة ما، نجد بهجاجي حريصا أشد الحرص على شحذ ذاكرته، محاولا الربط بين هذه التجربة وسياقها، ضابطا التواريخ بالأيام والسنوات، موثقا للمنعطفات والتحولات، مهتما بالتفاصيل، كما هو الشأن في الورقة التي كتبها عن الفنانة ثريا جبران. فهنا يلبس بهجاجي لبوس كاتب السيرة وقارئ التجربة في آن واحد بحيث يغدو لعمل الذاكرة نفس القيمة ونفس الصدقية التي للقراءة النقدية. وفي سجل الشهادات، يطل علينا بهجاجي بلبوس آخر، نلتقط فيه ذبذبات إنسان مفعم بالحب ومؤمن بالقيم الإنسانية النبيلة. فكتابته عن المرحومين الكغاط وسلمات وسكري كتابة وجدانية بامتياز، فيها الكثير من العمق الحميمي ومن الاحتفاء الحزين بتجارب مشتركة مع أصدقاء في الحياة وفي المسرح. إن بهجاجي في كتابته عن هؤلاء الأصدقاء الذين رحلوا يصر على رسم بروفيلاتهم بنوع من الأسى، لكن بحذق الخبير بالسلوكات والمواقف الإنسانية. وكأني به يبحث في الكتابة عنهم عن صورة تخلد ذكرهم في ذاكرة المسرح، وترسخ أسماءهم في وجدانه بحكم العلاقة الحميمية معهم. بهذه التجليات، رسخ بهجاجي لنصوصه في كتاب «بلاغة الالتباس» عطرا إنسانيا رفيعا جعل كتابته تنفذ إلى حواسنا وأرواحنا، لما فيها من عصارة الفكر والمساءلة والمشاهدة والقراءة والمعايشة الوجدانية للتجارب والأشخاص. ولعل هذا ما ساهم في تعميق محبتي لبهجاجي الذي عشقت كتابته قبل أن أتعرف عليه لتزداد محبتي له كشخص. لذا، سأقتطف من كتابه ما قاله هو عن المرحوم محمد الكغاط لأقوله عنه هو أيضا. يقول: «وحين تفتتن بذلك السلوك لابد أن تحب الرجل وتخلص في الوفاء له، وأن تحاول ممارسة الفن الذي يمارسه هو. فبوابة الفن ككل بوابات الحياة الأخرى نطرقها كمن يبحث عن ضوء هارب. قد يجيبك غلاظ أجلاف فتبدل الساعات والبوابات، أو يجيبك الطيبون. ومن حسن حظ الأجيال الجديدة أن وقفت على هذه البوابة بالضبط، حيث كان لها منذ البداية أصدقاء على هذه الدرجة العالية من الأناقة والسمو. طرقوا البوابة ففتحوها، فكان الفناء شاسعا بالأحلام والأسئلة والمحبة العميقة وبالقلق الدائم» (ص: 90-91). شكرا لك السي محمد لأني أعتبرك، إنسانا، إحدى هذه البوابات الطيبة التي انفتحت لي أنا أيضا على درب المسرح أيام كنت أتهجى الحروف الأولى في أبجدية هذا الفن، ولأني أعتبرك، كاتبا وناقدا، واحدا من الذين فتحوا عيني على مجال الأحلام والأسئلة والمتع في القراءة والمشاهدة والاجتهاد النقدي لتفكيك بلاغات الالتباس في المسرح وفي الحياة. وعليه، أدعو كل من تراوده الرغبة في تقاسم هذه المتع أن يقبل على قراءة هذا الإصدار الجديد الموسوم ب «بلاغة الالتباس: قراءات في المسرح المغربي» للصديق محمد بهجاجي الذي يمكن اعتباره بحق إضافة نوعية لرصيد الكتابة عن المسرح في بلادنا. * نص المداخلة التي ألقاها الدكتور حسن يوسفي في حفل توقيع كتاب «بلاغة الالتباس» لمحمد بهجاجي يوم الثلاثاء الماضي (14 ماي 2013) بمدينة مكناس بمبادرة من المديرية الجهوية لوزارة الثقافة بجهة مكناس تافيلالت بمناسبة اليوم الوطني للمسرح.