لا تعد كتابة رواية مغربية بالعربية حدثا مألوفا عموما ضمن المشهد الثقافي المغربي...نحن نستهلك الروايات المشرقية التي تتمتع بجودة عالية، ولا نقرأ أدبنا إلا قليلا. والاحتفاء بالأدب المغربي لا يتم دوما بنفس اتساع رقعة اهتمامنا بالروايات العربية كما هو الحال مع رواية «عزوزة» للأديبة المغربية زهرة رميج التي أصدرت الطبعة الأولى من روايتها على نفقتها الخاصة. بعد القراءة سنكتشف أن هذه الرواية المغربية تأتي ضد التيار الغالب الذي أخذته الرواية المغربية منذ أواسط الثمانينات إلى ألآن. رواية تهتم كثيرا بالبلاغة ألأدبية العالية، ولا تتخفف من الجماليات اللغوية لإنجاز سرد سهل يلاحق الوقائع التي يبدو بعضها نافلا.إن الساردة توظف اللغة كحامل لقيم فنية ونفسية واجتماعية وليست مجرد أداة تنقل أحداث الرواية من دون أن تكلف نفسها عناء الاهتمام بالأسلوب والتراكيب والمفردات والصياغات المقعرة الغامضة التي تسم رواية اليوم التي تطرح أسئلة جوهرية على صعيد البنية والدلالة معا. هذا الأسلوب السلس هو الذي، ربما قد يشجع فئات كثيرة من القراء المغاربة والعرب، ومن له اهتمام بالسيناريو، على إعادة الصلة بالرواية الحديثة والعثور على عوالم تشبهنا وتشبع رغبتنا في النهل من صور الحياة المغربية القحة. عزوزة تقتحم أروقة أحد المنازل المغربية، لتتلصص على أسراره ومشاغله اليومية ،ونزاعاته الصغيرة ، وتستعرض تفاصيل حياة أسرة مغربية يصعب تصنيفها اجتماعيا ، فهي (وفقا للصورة التي تقدمها الرواية) أعلى من الطبقة الوسطى ، وأدنى من الطبقة الاستقراطية ،وتتكون من : الأب (أحمد) والأم( عزوزة)، ومجموعة من البنات من أهمهن حليمة ، وأم أحمد (غنو) التي تحظى بدور فاعل تصاعد الفعل الروائي ،بل وأساسي لأنه دون غنو كان العالم سيكون مختلفا بل وكأن الرواية لا وجود لها إلا بوجود أم أحمد. ترصد الساردة جانباً من حكاية هذه الأسرة في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية . الرواية لا تخوض في التاريخ، وإن كانت تومئ إليه كثيرا، ولا يتم ذكر الحادثة أصلا، بل تصغي الرواية إلى الأصوات الخافتة والعالية لأفراد تلك الأسرة التي تعيش حياة غير عادية لا تخلو من العقبات والخصومات والصعوبات ، ولا تفتقر كذلك إلى الآمال والطموحات. تسعى رواية «عزوزة»، من خلال سرد حكاية هذه الأسرة بكل تشعباتها وانشغالاتها إلى تقديم نموذج يعبر عن حقيقة وطبيعة المجتمع المغربي البدوي الذي يعيش مرحلة هائلة في مختلف مناحي الحياة ،ويبدو أن تلك المرحلة أفرزت تحولات ثقافية واقتصادية واجتماعية ، لكن التأثيرات الحادة التي أصابت الجوانب الاجتماعية والأخلاقية بقيت مجهولة خلف الأبواب المغلقة التي يصعب اختراقها وكشف أبعادها إلاَّ عبر عمل فني ، وهذا الأخير ،بدوره ،لا يصل بسهولة إلى الآخر فيبقى رهين محليته. زمن الرواية يعود إلى نهاية الخمسينات. في هذه المرحلة الانتقالية، المفصلية لم يكن المغرب قد شفي تماما من الجراح التي أعقبت الحرب، ولم يكن كذلك ، قد اهتدى إلى استقلاله الناجز.الرواية تدور إذاً في تلك المنطقة الرمادية الملتبسة الخارجة من دمار ما تزال آثاره ماثلة للأعين ، والساعية ، في الآن نفسه، إلى التصالح مع الذات والتغلب على العقبات لتحقيق استقلالية الشخصية المغربية ،والبحث عن دور في عالم مضطرب.هذا الصراع الخفي حينا ،والمعلن أحيانا، يتجلى بين أفراد الأسرة، خصوصاً الزوج والزوجة .ففي بداية الرواية يكون أحمد وعزوزة يعيشان تجربة حب جارفة،لا تنقصها الألفة والدفء، إذ يرغب كل واحد منهما في الآخر بطريقة غير مباشرة . لكن هذا الزواج لا يصمد أمام محنة نادرة الحدوث في تلك البقاع ،إذ يتعرض لضربة موجعة حينما يصاب أحمد بعجز جنسي لن تكتشف الزوجة أمره إلا في السنوات الأخيرة قبل وفاة أحمد.هنا تسهب الرواية في الحديث عن الحب رغم الشرخ الذي أصاب علاقة أحمد بعزوزة. واللافت أن الرواية تطرح ، عند الحديث عن انكسار العلاقة الزوجية ، إشكالية الفرق بين المثل العليا والنظريات الطموحة من جهة ،وبين زخم الواقع العصي على التنظير والتنميط من جهة ثانية . فالزوج الذي طالما تردد على المواخير وألف عالم الباغيات إنما كان يفعل ذلك من أجل إخفاء عنته وعجزه عن مواجهة أنوثة عزوزة الطاغية.هذه النهاية الملتبسة تحيلنا إلى عنوان الرواية المراوغ والساخر»عزوزة» ظل أمنية صعبة المنال ، ولم يكن سوى تعبير مناقض لأحوال أسرة محطمة وقلقة. رواية «عزوزة» رواية كلاسيكية ( بالمعنى النبيل للكلمة )، في بنائها ، وسردها الذي يتصاعد في شكل منطقي من دون أن يكون هناك أي تداخل بين الأزمنة ، أو تشابك في الأصوات الروائية .والحوارات سهلة قريبة ، بل شبيهة بتلك الحوارات اليومية العادية باستثناء بعض التلميحات والإشارات العابرة التي تعكس روح الثقافة المغربية المتحفظة ، وطابعها المحلي. وهي تضمر أحيانا، بعدا ثقافيا كأن يجري الحديث عن حياة الأجانب في المغرب ولباسهم وثقافتهم . ويجتمع السرد والحوار، والوصف المختزل على أية حال، في تقديم صورة وافية عن الذهنية المغربية التي تتسم بالغموض واللاعقلانية، من دون إغفال لتراث الأسلاف الذي يكن تبجيلا خاصا للثقافة الروحية الغيبية، إذا جاز التعبير. كما تنطوي الرواية على إشارات ترمز إلى موجة مبكرة من التغيير الاجتماعي والثقافي التي اجتاحت المغرب البدوي في العقود اللاحقة، وهي مكتوبة بلغة مهذبة تحاول الولوج إلى التركيبة الاجتماعية للأسر البدوية المغربية، لكنها تقف عند حدود يصعب اختراق حصونها العالية. يمكن اعتبار رواية «عزوزة» التي نالت تلقيا حسنا، منذ صدورها ،استعارة رمزية للمجتمع المغربي البدوي في فترة حاسمة من صراعه مع الوجود الاستعماري الفرنسي والوجود التقليدي لذهنيات محافظة سعت لكبح عجلة التاريخ وتأخيره.