عندما قرأت رواية (عزوزة) للكاتبة المبدعة المواظبة الزهرة رميج، وفكرت في عنوان ناظم لقراءتي وناظم للرواية، تبادر الى ذهني خلسة عنوان رواية الفقيد عبد الكبير الخطيبي (الذاكرة الموشومة) La mémoire tatouée ، فهو عنوان دال يجلو أجواء وخبايا هذه الرواية الموشومة بالحناء المغربية والروح المغربية على امتداد صفحاتها المكتنزة ، الموشومة بعرام من الشخوص والأحداث والأزمنة والأمكنة تقع في الصميم القروي المغربي، في صميم الهوية المغربية التقليدية. نقرأ في «ص: 127، هذا الوصف الفيزيقي لشخصية غنو حماة عزوزة ونبع همومها وكروبها. ألا ترين جسدها موشوما كله؟ لم تترك مكانا منه إلا زينته، المركب ممتلئ الخط يتوسط أرنبة الأنف، الشيالة ثلاثة خطوط زرقاء ناصعة تبدأ من وسط الشفة بدل أسفلها، يداها وذراعاها كلها مزركشة وعنقها أيضا.. هذا الوشم هو الذي يجعلها تحتفظ بكامل الصحة والحيويةرغم كبر سنها.. من الواضح أن العين لاتقترب منها رغم جمالها. ص 127). بعبارة ، إن (عزوزة) وشم روائي مغربي، أو حفر روائي في ذاكرة مغربية موشومة، كما صدرت هذه القراءة الورقة. نحن هنا أمام رواية قروية بامتياز، تدور وقائعها وأحداثها من الألف الى الياء، في محيط قروي، في الدوار، القبيلة، فيما خلا نقلات مختلسة الى المدينة القريبة. ونحن هنا ثانيا، أمام رواية نسوية ومؤنثة بامتياز، فبطلتها الأولى، كما يتبدى من العنوان، هي عزوزة، والعامل المعاكس الرئيس في الرواية ومكدر أجوائها هي حماتها غنو. وكاتبة هذه الرواية مبدعة هي الزهرة رميج. ونحن هنا ثالثا وأساسا، أمام رواية درامية، طافحة مترعة بالأحداث والوقائع المتسارعة، طافحة مترعة بالشخوص والعلائق المتضاربة الملتبسة والملغومة، إنها رواية الشخصية والحدث. رواية درامية وميلودرامية في آن، تكثر فيها المفاجآت والفواجع والمناورات على نحو فاقع، بما يشد القارئ شدا ويحبس أنفاسه أحيانا، ويجعله رهين أفق انتظار دائم. ولابد لي من أن أسجل هنا ابتداء ملاحظتين أساسيتين: الأولى: هي نصوع لغة الرواية وسلاستها الأدبية وسيولتها السردية الرقراقة. الثانية: هي القدرة الفائقة للكاتبة على السرد ونسج خيوط الحبكة السردية، وأيضا القدرة الفائقة على استبطان الدواخل واستغوار الدفائن. ولاغرو، فالمرأة دائما هي سيدة الحكي، وشهرزاد السرد. إن رواية عزوزة، فيلم سينمائي مغربي ناجح. تشتمل الرواية على 373 صفحة من القطع الكبير، وهي تصنف لذلك ضمن أطول الروايات المغربية نفسا. وتتكون الرواية سرديا من 46 لوحة مشهدية مرقمة هي التي تؤسس وتؤثث محفلها السردي. وتعتمد بنائيا تقنية الفلاش باك، أي الحكي من الذيل، حيث تنطلق حركة السرد زمنيا من نهاية الرواية، من اللحظة الحاضرة، من دخول عزوزة الى المصحة لإجراء عملية جراحية على قلبها المثخن المكلوم، مرفوقة ومحاطة بابنتها الممرضة حليمة، وهي العملية التي أسلمت الروح بعدها وسكت وجيب قلبها، لينهمر بعدئذ شلال الذكريات تترى، ينهمر شلال الرواية، دافقا عرما، وتنتهي الرواية، عودا على بدء عند نقطة بدايتها، أي وفاة عزوزة، وأزمة حليمة النفسية بعد فقدان أمها، سندها وحضنها، وكانت الكتابة هي طوق نجاتها من معاناتها ونافذة إغاثة لتصريف همومها. نقرأ في السطور الأخيرة من الرواية، (ما إن أغلقت الممرضة الباب من ورائها، حتى أمسكت حليمة بالقلم، أزالت غطاءه وبأصابع مرتعشة كتبت بحروف بارزة وسط الورقة العذراء: عزوزة. وضعت الورقة جانبا، وأخذت أخرى، كتبت أعلاها رقم 1 وأحاطته بدائرة. استسلم القلم لإغراء البياض اللامع، وانطلق بتلقائية الأطفال، يلونها بسواد الحروف.. منذئذ تغير وضع الغرفة السوداء، صار خيط رفيع من النور يرتسم كل ليلة أسفل الباب، محددا عتبته بكل وضوح،) 373 هذا الصنيع بالضبط، هو الذي نهجته المؤلفة الزهرة رميج، مما يجعل الرواية في المحصلة، وكأنها مكتوبة من طرف حليمة، ابنة عزوزة، يرتد الزمن الروائي إذن من لحظة وفاة عزوزة إلى أيامها الخوالي في الدوار، أيام الصبا واليفاعة،. يدور هذا الزمن في مرحلة الاستعمار الفرنسي. وحسب الوقائع والمؤشرات الروائية السياقية، يحاذي هذا الزمن الفترة الأخيرة من الاستعمار، حيث اندلعت شرارة المقاومة، وكان والد عزوزة، علي الجعايدي، أحد شهودها وشهدائها، وبدأ المعمرون الفرنسيون يبيعون ضيعاتهم وممتلكاتهم تأهبا للرحيل، على غرار مسيو جاك، ومسيو فرانسوا في الرواية. أما الفضاء الروائي، كما ألمحت، فهو الفضاء القروي القح، فضاء الدوار الطبيعي الرحب، بسهوله وهضابه ووديانه وأشجاره وخيامه.. مع نقلات مختلسة إلى المدينة القريبة، يقوم بها خاصة أحمد زوج عزوزة، ليشتري السلع لدكانه وللأسواق التي يرتادها، وليقضي وطر نزواته وشهواته عند فتيات طامو. فلندلف قليلا إلى عالم الرواية، ولنر أولا إلى محورها وبيت قصيدها عزوزة. في بداية الرواية، في ص 9 ، نقرأ هذا الوصف لأنوثة عزوزة الباكرة. لقد بدأت تشعر بأحاسيس مبهمة وبتغييرات غريبة في جسدها معلنة عن أنوثة متفجرة قبل الأوان.. استدارة نهديها وتصلبهما الذي يؤلمها كلما لامستهما امتلاء جسدها، استدارة مؤخرتها، نظرات الرجال الملتهبة التي تكاد تلتهمها تشعر أنها لم تعد طفلة وأن معاملة هؤلاء الرجال لها تغيرت.. تنصب نظراتهم على صدرها النافر فتلتهب ووجنتاها (...) نظرات تخرجها، غير أنها تشعرها بالاعتزاز والكبرياء.) ص 9 هذه الأنوثة الفياضة المتوجة بجمال وجهها الآسر، هي ما أغرى أيضا أحمد صديق أخيه، الذي كانت تبادله حبا كتيما. فكان عرسا وكانت ليلة عمرها التي تصفها الكاتبة بمنتهى الدقة والصراحة والشفافية وتجدر الاشارة إلى أن الدقة والصراحة والشفافية في الوصف والسرد معا، هي خاصية ملازمة لهذه الرواية، لا تتورع بتاتا عن اقتحام واختراق الخطوط الحمر. وكثيرة هي الخطوط الحمر، الاجتماعية والأخلاقية التي تقتحمها وتخترقها هذه الرواية، وهو جزء من شعريتها وجماليتها بلا شك. ولنر بعد، إلى الشخصية الثانية في الرواية إلى حبيب عزوزة وزوجها وعدوها الحبيب أحمد. في: ص 17 نقرأ هذا الوصف لأحمد من منظور عزوزة. ظلت تتابع حركات يديه وهو يغسلها في أناة مشبكا أصابعه الطويلة ذات الأظافر المقلمة بعناية فائقة.. ومعها تتابع عبر شريط الذاكرة، ملامح وجهه المشرب بحمرة الشمس، لحيته المرسومة بدقة، جذعه المنتصب في جلسته، أكتافه العريضة، رزته المقببة بطريقة لم تشهد لها مثيلا، جلبابة الناصع البياض، سلهامه الحريري، كل شيء فيه ينبض أناقة وجمالا لكن هذا الشاب القروي الأمي، الأنيق الجميل ، هو الذي سيذيق عزوزة بعدئذ الأمرين. حد ممارسة العنف الجسدي والرمزي عليها، مدفوعا بحقد ومؤامرات والدته غنو، العامل المعاكس في الرواية، المحرك للحكي والزارع للعقد والكمائن والمنغصات. ما إن يقضي الزوج أحمد لبانته وشوقه من عزوزة، ويضمنها أما لأولاده حتى يطلق العنان لنزواته الجنسية «الزهوانية» فيكثر من زيارته للمدينة وتردده على ماخور «طامو»، حيث الصبايا الملاح، والليالي الملاح. تقول طامو لأحمد، في إحدى زياراته: (أية مشاغل، تعني الزواج؟ أمرك غريب حقا! منذ متى كان الزواج عائقا دون المتعة؟ بالعكس، المتزوجون أكثر إقبالا أن المتعة الحقيقية لا توجد إلا هنا. وإلا ما كنا رأيناك مرة أخرى) ص/ 79 وعلى امتداد الرواية، يبدو احمد زهوانيا شبقا زير نساء، ذلك أن الفحولة والرجولة في المنظور الأبيسي القروي، تعنيان، الإكثار من العلاقات الغرامية وعدم الاقتصار على امرأة واحدة، وعلى امتداد الرواية، تعاني عزوزة من نزوات وصبوات زوجها، كما تعاني من مكائد وكمائن حماتها، وتلعق جراحها، صامتة وحيدة. لكن فحولة أحمد، التي أطلق لها العنان على حساب مشاعر عزوزة وهواجسها المؤرقة، هي التي سترتد ضده وتصاب بالجرح النرجسي. هي التي ستصاب في مقتل، حين يصاب أحمد بغتة، بالعجز الجنسي، بعد الصدمة المالية الأليمة التي مُني بها، إثر الصفقة الخاسرة التي انساق إليها بإغراء وإغواء من صديقه المحتال بنحمادي، حيث اشترى محصول ضيعة والمسيو جاك، للسنة المقبلة، وضيعة المسيو جاك في مهب الريح. ثمة تيمات روائية سياقية مختلفة في الرواية، لكن التيمة المهيمنة هي معاناة عزوزة من العنف الممارس عليها من طرف زوجها وحماتها. وأعتقد بهذا الصدد، بأن رواية (عزوزة) تشكل صك إدانة ضد العنف الأسري في البيت المغربي، إذ تسرد وتصف جيدا مظاهر هذا العنف في البيت المغربي القروي/ عنف الزوج ضد الزوجة. عنف الحماة ضد الزوجة. العنف المتبادل بين الضرتين، عزوزة والحمرية. يؤطر كل هذا، عنف المجتمع التقليدي، القروي بعامة. ضد المرأة التي يجبرها على ملازمة (بيت الطاعة)، والخضوع المطلق لسلطة وسطوة الأب والزوج وأعراف القبيلة شاأن عزوزة في الرواية. ومع ذلك مع كل الضيم الذي ذاقت عزوزة مرائره من طرف زوجها وحماتها، لم يفتر ولم ينقص حبها لأحمد، وظلت تهتف به لآخر رمق، (لا أريد أن أعود، أريد الذهاب إليه، دعوني أعيش بجانبه ص. 361). علما بأن احمد مات قبيل عزوزة بعد صدمته الآنفة، التي كانت قاضية. وخلال السيولة السردية النهرية وفي سياق مشاهدها، تعرض علينا الرواية انماطا وضروبا من العوائد والطقوس الاجتماعية، وأنماطا وضروبا من السلوكات والتصرفات الفردية، التي تدخل في صميم السيكولوجيا المغربية التقليدية وتنضح من تجاويف الذاكرة المغربية، كاشفة بذلك عن المستور والمسكوت عنه. تعرض علينا ما يشبه الكرنفال الشعبي الذي اعتبره باختين روح وعمق الرواية من ذلك على سبيل الإشارة. . مشاهد الغناء والرقص الشعبيين. . عبيدات الرمى. . التمرغ في الرماد، تعبيرا عن رفض الزواج. . المناحة بعد الميت. . الوصفات الشعبية لإثارة الهمة وإنعاش الفحولة. . تسميد النعناع بروث البهائم إلخ. . وكقفل ختام ولبنة تمام، نقرأ المشهد التالي في مناحة والد عزوزة علي الجعايدي، الذي لقي حتفه على يد الفرنسيين. . (تعالى العويل: نساء يتمرغن في الرماد والتراب، أخريات يخدشن وجوهن، توسطت النادبة حلقة النساء، وراحت تردد مناقب الميت وهن يصفقن بأيديهن ويضربن الأرض بأرجلهن في حركات متناغمة مع إيقاع التصفيق. ظلت عزوزة تردد مناقب أبيها مع المرددات، وأظافرها تغوص في أعماق وجهها، إلى أن بح صوتها وغطت غشاوة عينيها، فهوت إلى الأرض. ص . 60) وتبقى رواية (عزوزة)، من قبل ومن بعد، رغم ميلودراميتها الفاقعة، وزحمة أحداثها ووقائعها وفجائعها الآخذة بالخناق والكاتمة للأنفاس، تبقى حفرا روائيا جميلا في ذاكرة مغربية موشومة. تبقى وشما نسويا جميلا في جيد الرواية المغربية. الزهرة رميج/ عزوزة ط 1 2010. مطبعة النجاح الجديدة الدارالبيضاء.