وصل الكاتب المغربي ادمون عمران المليح، وهو يمشي بتعب واضح وخطوات متثاقلة، محسوبة بالملليمترات، إلى قاعة المحاضرات، رافقه تصفيق ووقوف من الحضور؛ تحية لهذا الكاتب الكبير (93 سنة)، ولتجربته الأدبية ومواقفه الإنسانية. كان ذاك خلال لقاء ناذر جمع الكاتب المغربي إدمون عمران المليح بالكاتب الإسباني خوان غويتصولو، في حوار ثقافي، احتضنه، معهد سرفانتس الإسباني بمراكش، خلال الأسبوع الماضي. هذان الكاتبان اللذان يشتركان من حيث جعلهما للحوار بين الثقافات مفتاحا لإبداعاتهما، انطلاقا من تجربتيهما، ومن تعايشهما مع أوضاع جغرافية وتاريخية طبعت مسارهما الشخصي والأدبي في بداية اللقاء، قدمت ماريا لوبيز دولوريس أونامورادو، مديرة المعهد الإسباني، العدد الثامن من «دفاتر الفار- إشبيلية»، باللغتين العربية والإسبانية، الذي جمع نص «الرجال اللقالق» للكاتب الإسباني بنص آبنر أبو النور للكاتب المغربي، مع تقديم للناشر أنطونيو رييس رويس، نقرأ فيه عن النظر إلى الخلف والتعرف على الرحالة، وخاصة المؤلفين الذين وهبوا حياتهم وإبداعاتهم لفهم عوالم أخرى وثقافات أخرى مختلفة عن تلك التي ولدوا في أحضانها. هم كتاب يمكن أن نصفهم، في بعض الحالات، بكتاب «ذهاب وإياب»، فهم أقاموا في هذه الجهة وتلك من الحدود التي تفرق بيننا، وتمكنوا من القبض على جوهر ثقافات متباينة، وإغناء فكرهم وأعمالهم بنكهة وخصائص ثقافات بعيدة وعريقة. .قدم غويتصولو جانبا من سيرة وتجربة عمران المليح، الذي ولد عام 1917بمدينة آسفي، والتحق بالحزب الشيوعي المغربي عام 1945، وأسهم بشكل عملي في معركة الاستقلال الوطني، قبل أن يستقيل في عام 1959 من مهامه الحزبية ويقطع الصلة بالعمل السياسي، ويبدأ تجربة تدريس الفلسفة، قبل الهجرة إلى فرنسا، دون التفريط في روابطه مع المغرب، الذي سيعود للاستقرار به نهائيا عام 1999. قال غويتصولو عن المليح: إنه كاتب عاش تجربة الكتابة كمغامرة، ولذلك ظل كل كتاب يدفع به إلى دنيا القراءة بمثابة «اقتراح مختلف»، كما أن المليح، يضيف غويتصولو، لم يكتب لغرض تجاري أو تسويقي. والفرنسية، التي كتب بها نصوصه، هي لغة خاصة به، وليست فرنسية - كما ينبغي لها أن تكون- أو كما تتطلبه القواعد، بل لغة يكتبها كاتب مغربي بعمق مغربي.ولأن المليح يهودي، ومغربي الانتماء، فقد وجدها غويتصولو فرصة لاستعادة تاريخ إسبانيا، خاصة منه التاريخ المشترك بين الضفتين، الذي أسهم فيه المسلمون واليهود، بشكل أساسي. قال غويتصولو: إن «الثقافة هي التعدد، وإسبانيا القرن السابع عشر انهارت ثقافيا؛ لأنها حاربت التعدد وأقصت كل ما له علاقة بالمسلمين واليهود»، مشددا على أن التعدد والانفتاح هما اللذان صنعا تاريخ إسبانيا الثقافي، قبل تلك الفترة، مشيرا إلى أن «قصر الحمراء» يبقى، اليوم، أكثر المآثر زيارة من طرف السياح عبر العالم. تحدث غويتصولو عن غضب الإسبان من تلك الجملة التي يرددها سكان شمال أوروبا، والتي تتلخص في أن «أفريقيا تبدأ من جبال البيرينيه»، وهي الجملة التي تحولت إلى «عقدة» بالنسبة للإسبان، ولذلك حرصوا على أن يكونوا أوروبيين أكثر من باقي الأوروبيين.وسعى غويتصولو، في أكثر من مناسبة، إلى أن يقارن نفسه بالكاتب المغربي، خاصة حين قال: «حاولت أن أجعل المغامرة أساس كتاباتي، وعشت أكثر حياتي خارج إسبانيا، فكان أن عشت بلادي ولغتي في بلدان ولغات الآخرين، ولذلك رأيت بلادي بطريقة مختلفة».ثم استعرض غويتصولو أهم المحطات في سيرة وحياة عمران المليح، وخاصة نضاله من أجل استقلال المغرب، والأثر الذي خلفه تهجير اليهود المغاربة إلى إسرائيل في نفسه، حيث هاجر الأغنياء إلى أمريكا وأوروبا، فيما تم تهجير الفقراء، عبر توظيف الحيلة والإغراءات من طرف سلطات إسرائيل، لكن، حين وصل يهود المغرب، الذين تم اجتثاثهم من قرى الأطلس وغيره من المناطق، إلى «الأرض الموعودة»، لم يتم استقبالهم بشكل جيد، كما اعتبروا مواطنين من الدرجة الثانية. في هذا السياق، أبرز غويتصولو مواقف عمران المليح من القضية الفلسطينية، مذكرا بموقفه الشجاع من الطريقة التي تعاملت بها إسرائيل مع قافلة «أسطول الحرية»، كما لم تفته الفرصة لكي ينتقد مواقف الولاياتالمتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي مما تقوم به إسرائيل من انتهاكات وجرائم. اللقاء كان مناسبا، أيضا، للحديث عن الوضع الثقافي العالمي، حيث اتفق الكاتبان على أنه ليس على ما يرام، وعلى أن هناك تراجعا خطيرا في مستوى القراءة والتلقي. ومثل غويتصولو لهذا الوضع العالمي بفرنسا، هذه الدولة، التي اشتهرت، خلال تاريخها القريب، بمجموعة من الكتاب والفلاسفة المتميزين، يوجد بها، اليوم، فلاسفة متوسطون ومبدعون مقبولون، لكنهم لا يحتملون، إنها وضعية عالمية، في ظل تراجع قيمة المنتج الأدبي وغلبة المنطق التجاري. خلال مختلف مراحل هذا الحوار الثقافي، بدا لافتا حجم نقاط الالتقاء التي تجمع الكاتبين، غويتصولو وعمران المليح، سواء على مستوى قضايا الأدب أو ما يعيشه العالم من أحداث وفواجع. ورأى عمران المليح، في ختام كلمته، أن الثقافة في المغرب مضطهدة» و«ينظر إليها كترفيه وديكور»، متسائلا: أين هي قضايا الثقافة الحقة؟، مشدداً على أن المعركة الكبرى، التي انخرط فيها المغرب، في سبيل الديمقراطية والعيش الكريم، تمر عبر كسب معركة الثقافة. أما الكاتب الإسباني، فقال: إن تدني نسبة القراءة في المغرب وفي البلدان العربية هي ظاهرة عالمية، فقط، قبل أن نشتكي وننتقد ما تقوم به إسرائيل، علينا أن ننظر في مشاكلنا الداخلية، وخاصة على مستوى تكوين وبناء الإنسان، على المستوى الثقافي.