بادرت مؤخراً الجمعية المغربية للمصدرين بتكريم مسار الفنان التشكيلي والشاعر الأديب عبد الله اليعقوبي تحت عنوان بارز «تعبير...التزام» وهي التفاتة نوعية تنم عن قيم التقدير والاعتراف بما أسداه هذا المبدع المغربي الأصيل من خدمات جليلة على مستوى العطاء الفني والشأن الأدبي، حيث أصدر مؤخرا مؤلفا مرجعيا موسوما ب «تقاطعات»، كما تم تتويج رصيده الإبداعي بالميدالية التقديرية للمؤسسة الأكاديمية الفرنسية «فنون وعلوم وآداب» برسم هذه السنة الجارية. كل لوحة من لوحاته التعبيرية تنتج خطابا إيحائيا خاصا بها. فهي عبارة عن رسائل دلالية تغدو من خلالها أجساد المرأة المختزلة و المجردة من كل الأوصاف الحسية أجسادا مفهومية و حلمية و رؤيوية حسب شروط التداول الخاص والعام. إن أجساده المتماهية مع أقانيم الكون و الوجود توحي بعدة أشكال تمثيلية، وقيم روحية مضافة منفتحة باستمرار على التواصل التفاعلي، والتسامح الكوني في ضوء وعي محايث بالذات والآخر معا. تنخرط أعمال عبد الله اليعقوبي التي تدرجت عبر عدة مدارات موضوعاتية (نحاسيات، الزهور، حنينيات،نسائي، الربيع العربي) في عالم المعنى والإشارة، محولة مشاهدها إلى علامات، و صور تخييلية، وشذرات، و فصوص، ومفاهيم، و كلها وسائط معنوية تصالح الأجساد المرسومة بمحيطها العام، وتنظم علاقتها بالكائنات والأشياء وتخلصها،بالتالي، من حيثيات التجربة الفردية بالمفهوم الضيق للكلمة. كل الأجساد الطينية شبه الملائكية تحتل حيزا كبيرا في حضرة اللوحة / المسيرة، حيث تكتسي كل الأبعاد الرمزية للماهية وللحقيقة في قاموس المناطقة. إنها تمثيل للخيال الإبداعي بتعبير الباحث مالك شبيل (رؤى الجسد في الاسلام)، فهي حالات كينونية متعددة و متنوعة في المكان و الزمان. تتوزع كل أجساده المجردة، إذن، بين مقام الرؤية ومقام الرؤيا، وتنهض كأفقين متكاملين للتفكير والتأمل يصوغان تصورين مغايرين تماما للجسد والكينونة في زمن المفارقات و الصراعات الوهمية. إن لوحات عبد الله اليعقوبي الشطحية لا تترك مجالا للبياض الدلالي، فهي طافحة بالمعاني والايحاءات التي تشغل ملكات التأويل، والقياس، والتمثل الإدراكي. ففي مملكة المتخيل الجمعي، يمكن أن نتحدث عن كيمياء الجسد المركب المتولد عن أربعة أسطقسات (العناصر الطبيعية الكونية :النار و الهواء و الماء و التراب). في هذا السياق التخييلي، تتلبس شخوص لوحات عبد الله اليعقوبي بالكون من حيث طبيعته المزدوجة المادية و الروحية، كما تبدو ملكاتها المحتملة بواسطة الفعل و الإرادة و الانتفاضة (أذكر لوحته «الربيع العربي»). هكذا، يتحدد الجسد في لوحات اليعقوبي كمادة و صورة معا باعتبارهما وحدة عضوية لا تقبل التجزيء. وهو لعمري جسد مجنح ينزع إلى ما هو أرقى و أسمى. إنه يتماهى مع النور (الجانب اللاهوتي) لا مع النار (الجانب الناسوتي ). فهو في حالة انتصاب عمودي يولي ظهره للمشاهد، منتشلا إياه من ظلمة الجسم، وداعيا إياه لتمثل نور العقل الأول الساكن في أعالي الجسد، وكأننا بصدد الإشارة الكافية لمعدن الأنوار ومنبع الأسرار الذي لا ينضب. فهذه العمودية، بالتعبير الباشلاري،ليست مجازا وهميا، بل مبدأ نظام وقاعدة تسلسل تندرج في إطار علم النفس المتعالي. فنحن، هاهنا، في مأوى الخيال المنفتح و أحلام اليقظة. إن عبد الله اليعقوبي ليس من أنصار النصف الأسفل للجسد الذين تاهوا في جغرافيته بدعوى «التقليعة الحديثة على الطريقة الغربية». إنه ينحو بالجسد نحو العالم السماوي لا الأرضي مدركا أيما إدراك بأن العوالم السفلية المظلمة تكمن نزعاتها في التدمير والإقصاء، والمحو. إنه يعلم، أيضا، أسرار التناسب الموجود بين أشكال الجسد و أحوال النفس على طريقة أهل الفراسة، من حيث قيم الجمال أو قيم القبح. في رحاب أعماله التشكيلية، يتطلع عبدالله اليعقوبي إلى الروحانية و العقلانية، منشدا المعرفة المجردة الخالصة من شوائب المادة و منزلقاتها. فهو يؤثت مسافة دلالية بين المرأة ككيان و المجتمع كقضايا و مواقف، و كأن اللوحة فضاء متاهي تسوده الشخوص الراغبة في التغيير، و الطامحة إلى الماهوي و المجرد و المطلق بدل العرضي و الحسي و الزائل... إن اليعقوبي لا يشيع مراسيم موت الجسد بل يحتفي بجوهره الروحاني الخالص و التواق إلى حضرة الحق و الحقيقة. و هذا مقام معرفي لا يدركه إلا الذين يكتنهون المعاني المتوارية في باطن اللوحة و لا يكتفون بمعاني ظاهرها. هكذا ،تحتضن أجساد اليعقوبي عدة سلوكات ثقافية و أفعال رمزية ذات مضامين وجودية (الإرادة ،والحرية، والقدرة...الخ ). فهي ترفع حجب الحس، و تكشف عن حقائق الوجود في ضوء صراعه التاريخي و مخاضه الإنساني. إنها محور للكون، و مقياس للإدراك، و عنصر جوهري في عمليتي الإبداع و التلقي الجمالي على حد سواء. لقد افتتن اليعقوبي بالمرأة حد الهوس ،و أعلى من قيمتها الرمزية ،حيث أنزلها منزلة « القماشة» و هو إعلاء يذكرنا بصاحب الفتوحات المكية ابن عربي الذي أشار إلى أن حب المرأة ميراث نبوي وعشق إلهي :» شهود الحق في النساء أعظم الشهود و أكمله... « ( المجلد الثاني، ص 321). إن المرأة في أعمال هذا الفنان المتشبع بالروح الصوفية مجرد ذريعة (prétexte) يطلبها السالك من أجل العبور إلى موضوع قيمة القيم : الحقيقة ،و هي قيمة اعتبارية تعادل، رمزيا ، الحنين الأبدي للتوحد بالجسد السرمدي، و الفناء في حضرة الألوهية. ها هنا ،يستبطن المتلقي / المتأمل صمت اللوحة ،و يتمثل حشود أجسادها المتراصة و المتعالقة و على رؤوسها ليس الطير بل المظلات و شذرات الأجنحة ،و كأنها تمارس طقس تعميد لكي تحلق عاليا في مدارج المعرفة و الحقيقة. إن هذا الحضور المركزي للمرأة بمختلف أحوالها و مقاماتها يوفر هامشا كبيرا من الحرية ،حيث تنعتق الكينونة من مختلف القيود و الإكراهات الموضوعية ،و تنمحي المسافة بين الجواني /الداخل و البراني/ الخارج و كأننا ضمن مراقي «الحج إلى الداخل» كعلامة بارزة على ولادة و مسيرة جديدتين تماهي بين الذات و الموضوع، و توحد ثنائية الإنسان و الكون . لقد أطلق اليعقوبي العنان لمخيلته الفردية ،مقدما لعشاق الفن البصري و مريديه روضة من الباقات اللونية والمشاهد التعبيرية التي أصبحت الجذر الناظم لمقاماته التشكيلية بوصفها بيانات جمالية تنتصر للجسد ككينونة خالصة بدون انتماء شوفيني،أو هوية اثنية ضيقة. فهي تخفف، من الناحية النفسية، من حدة احساسنا بالزمن وبحدوده القسرية، و تستدرجنا لتمثل قيمة الإنسان، و العمل على تحريره من مثبطات التهميش و الدونية. إن كل لوحة ذاكرة لأخرى. فعوالمها تتجاوز الجانب التقني الصرف لأنها تنم عن حساسية الفنان، و هواجسه الوجودية. في ظل هذا البهاء الفني، ينتمي عبد الله اليعقوبي إلى سلالة الانطباعيين بالنظر إلى أنوار لوحاته الهاربة و إلى سلالة التعبيريين بالنظر إلى قوة اللمسات و إيحاءات المشاهد الشاعرية. للإشارة، فإن فناننا الحالم منخرط في القول الشعري، و يؤمن بأن الرسم ضرب من الشعر الذي يرى و لا يسمع، وبأن الشعر ضرب من الرسم الذي يسمع و لا يرى (مقولة الشيخ محمد عبده). كل القصائد (أقصد كل اللوحات) مصدر إضاءة و مكاشفة، و نافذة على العالم الخارجي، و نشيد لإرادة الحياة، وانعتاق من سجن الجسد المادي من أجل الالتحاق بعالم مثالي خالص، و بلوغ أمهات الفضائل و فصوص الحكم و القيم. تحفزنا هذه القصائد البصرية على حب الحياة بالمعنى البيولوجي و ليس الإديولوجي، و على الإنصات إلى نبض الروح في كليتها الرمزية. إنه تواطؤ جميل بين إرادتي المعرفة و الفن معا، يحول الجسد إلى طاقة فكر و إنتاج و مساءلة خارج كل النزعات الليبرالية المتوحشة والعمياء التي تعمق اغتراب الإنسان واستيلابه. إن عبد الله اليعقوبي يقدم بشكل مغاير أحوال الجسد بعيدا عن رهانات مؤسستي الموضة والإشهار اللتين ترتكزان على القهر الجنسي و الاقتصادي للجسد. فهو يعمق الرؤية حول الجسد كموضوع للاشتغال الفكري والإبداعي، و يجعله مركز اهتمام النسق الجمالي و النظر العقلي الصرف، وعيا منه بأن الوجدان(Pathos) هو الذي يصالح بين الجسد و الصمت عبر لغة المجاز، و التخييل، ومنطق الاستعارة، مما يفصح عن كينونة اللوحة و مداراتها متعددة الأشكال و الرؤى التي تتخد لذاتها شعار: «أنا أقدر» عوض «أنا أفكر» بناء على معياري الإسقاط (البحث عن الداخل في الخارج) و الاستبطان (البحث عن الخارج في الداخل) . عالم من المعاني و الموجودات الدلالية، هي لوحات الفنان عبد الله اليعقوبي التي تجعل من مشاهدها الرائي فاعلا إشكاليا ينتج القيم كما يستوعبها، و يولد الدلالة العامة للعمل الفني عبر وعي محايث بالجسد باعتباره بؤرة العلامات و ملتقاها. من ثمة، يغدو النص الإبداعي معادلا رمزيا للجسد الإنساني، وامتدادا متساميا لوجوده المادي و الروحي معا. فهو أكثر انزياحا و تعاليا، حيث يتدرج من الإدراك و الاستيهام إلى الفضاء المتخيل في سياق يربط بين العمل الإبداعي والكينونة الوجدانية لمؤلفه، مما يجعلنا نؤكد بأن كل أبحاث اليعقوبي و لوحاته مقاطع من سيرته الذاتية بحصر المعنى. إنها كينونة تردد مع الأديب غسان كنفاني قولته: «أنا أحكي عن الحرية التي لا مقابل لها، الحرية التي هي نفسها المقابل».