غوانتانامو.. في أقصى جنوب شرق كوبا، أرض مستأجرة، تبعد 90 ميلا عن فلوريدا الأمريكية حوّلتها إدارة الرئيس الأمريكي بوش الثاني إلى معتقل ل 799 سجينا «مسلما»، بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001 في الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي لم تكشف أسرارها بعد مرور كل تلك الفترة عليها. هذا المعتقل اعتبر وصمة عار أمريكية بامتياز، حتى عد مثيلا آو بديلا لتمثال الحرية الذي نصبته أمريكا شعارا لها أمام العالم. أطلق الرئيس بوش الثاني وهو يشن حملته العدوانية تحت ما يسمى بمحاربة الإرهاب، وآلته الإعلامية، على المعتقلين «أسوأ الأشرار» و»المقاتلين الأعداء» وأقام لهم محاكم عسكرية استثنائية، تحت سمع وبصر العالم ومنظماته التي ترفع شعارات الدفاع عن حقوق الإنسان والأمم المتحدة ومجلسها الخاص بالحقوق الموجهة من دوائر أجهزة الولاياتالمتحدة والبنتاغون الأمريكي. رُحّل عن المعتقل أكثر من ثلاثة أرباع من مر بالسجن وأنصفتهم المحاكم الوطنية في بلدان حليفة للولايات المتحدة، كبريطانيا وفرنسا والسويد والدانمارك، وأطلقت سراحهم لعدم توفر أدلة بحقهم وبرأتهم من التهم التي وضعتها الإدارة الأمريكية وأجهزتها المخابراتية والأمنية والحربية لاعتقالهم وتعذيبهم. الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما وعد بغلق هذا المعتقل وإلغاء المحاكم العسكرية ولكنه لم يف بوعده، فما زال المعتقل قائما وما زال فيه 171 معتقلا. ومنذ افتتاحه تفننت أجهزة الإدارة الأمريكية في نمذجة الأساليب التي تمارس فيه وتكرارها في السجون الأمريكية الأخرى التي أشرف عليها أو تحكم فيها في أفغانستان والعراق وغيرها ممن تفضح كل مرة في وسائل الإعلام الغربية عموما. وما حصل في غوانتانامو من فضائح كشفتها أيضا وسائل الإعلام الأمريكية خصوصا ومن ثم وثائق ويكيليكس وعرت كل الشعارات البراقة المخادعة التي تترنم بها الإدارة الأمريكية ومؤسساتها وأتباعها وخدمها، ونشرتها بعد كل ذلك شهادات المعتقلين أنفسهم بعد إطلاق سراحهم. ومنهم من وثقها في كتب منشورة ومقابلات تلفزيونية موثقة، وهي كلها أدلة صارخة عن انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وإثباتات دامغة عن جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب معلنة بدون حاجة لشهادات أخرى. وقد يكفي ما يحفظه العالم كله عن صور المعتقلين من البشر الذين يظهرون بملابس برتقالية وأكياس على رؤوسهم، ويتعرضون لمختلف صنوف الاضطهاد النفسي والجسدي في أوضاع مخزية، لا تليق وتتواءم مع ما تدعيه الولاياتالمتحدة اليوم من حضارة إنسانية وفي هذا الزمن والتاريخ والعلاقات والتطورات التقنية. روى أحد المعتقلين ما حدث معه في غوانتانامو عن وضع «أدوية له في الطعام لمنعه من النوم كما أشعلت أضواء النيون على مدى أربع وعشرين ساعة، في زنزانة معدنية بطول مترين وعرض 1.5 متر مع موسيقى أفلام جنسية بأعلى صوت وملابس يجرّدونها للمعتقلين لعشرين يوما مع تشغيل المكيف بقوة». وأضاف عن خضوعه «لكهرباء في الساقين» وقارورة غاز يفتحها الحارس «خمس عشرة ثانية ليتنشق منها يوميا كل 20 دقيقة على مدى أشهر». وذكر التعليمات الأمريكية التي قابله بها الحارس لحظة وصوله إلى غوانتانامو: «انس العالم والحياة المدنية، انس كل شيء. أنت في النار الأميركية»، وقص كيف عاش «حياة حيوان» يتلقى تعليمات صارمة «لا تمش، لا تتحرك، لا تتكلم، هذا ممنوع». وشرح آخر: استمرت معنا الأغلال لفترة معينة ثم نزعوها عنا وجعلوا ثمة عقوبات لكل من لا ينصاع للأوامر بالمعسكر، فبمجرد أن يسأل عن الرقم ولا يجيبه المسجون، أو يغطي المسجون وجهه بالبطانية يحمي نفسه من البرد وهو نائم، فيأتونه فوراً بالكلاب البوليسية، ويرشونه بالمواد التي ذكرتها مع العصي والقوات الخاصة، كأنه جيش يريد الهجوم على دولة ما!! ويتحدثون معك بالمايكروفون ويصورون بالكاميرا ويصيحون: سلم بطانيتك وانزع ملابسك أنت الآن أمام القوات الأميركية وإلا سنداهمك، كأنه فيلم، وهذا يدل على شدة تأثرهم بالأفلام. ثم يداهمون السجن ويعرون السجين تماما، لمدة شهر يبقى عريانا!!. بعض من هذه الشهادات سجلها محامون أمريكيون في وثائق لهم منشورة، كما أنها صورة واضحة لا لبس فيها لمن يهمه بعد الرقص على أنغام الوعود الأمريكية والعزف على اوتار المديح للبيت الابيض وأجهزته التي يجب ان تحاكم بقوانين ادارتها وادعاءات أجهزتها ضد غيرهم من الشعوب والبلدان، قبل التصديق بها والاعتماد عليها. في كتابه «ملفات غوانتانامو: قصة 799 معتقلا في سجن أميركي غير قانوني» سجل المحامي اندي واشنطن عن الضغوط التي كان يتعرض لها محامو الدفاع عن المعتقلين، حيث «تخضع جميع مراسلاتهم وملاحظاتهم للرقابة، وغالبا تمرّ أسابيع عديدة قبل أن يستعيدونها». أما الرقيب الأمريكي إريك سار الذي عمل في معتقل غوانتانامو فقد سرد في كتاب له «داخل الأسلاك الشائكة»ما شهده من سوء معاملة وحشية للمعتقلين. وقد تطوع إريك سار، الخبير في اللغة العربية، في الجيش الأمريكي للعمل في غوانتانامو عام 2002. واكتشف أن ما رآه في السجن غيّر من نظرته إلى المعتقل وإلى بلاده كليا. كما كتب أن عدد محاولات الانتحار في المعتقل يتجاوز بكثير ما تعترف به الحكومة الأمريكية.. وتساءل: «لقد أصبح غوانتانامو رمزا لكل ما هو خاطئ في صورة الولاياتالمتحدة. إذا كنا نحاول بناء جسور مع العالم الإسلامي، ما هو الوجه الذي ننقله عن أنفسنا؟». أما عن المعتقلين العرب فلا تزال معاناة عائلاتهم مستمرة بانتظار الإفراج عنهم. ومن الفضائح الإضافية أن هؤلاء المعتقلين من الدول التابعة والحليفة لسياسات الولاياتالمتحدة والتي تشاركها كل حروبها الخارجية وتمولها ولا تتمكن من إطلاق سراح مواطنيها. ومهما كانت الاتهامات عليهم فما كشف منها أثبت وبالدليل القاطع مسؤولية معتقليهم عنها وبراءتهم منها. وفضحت أغلب التحقيقات تلك المسؤولية ولكن الإدارة الأمريكية ومؤسساتها لا ترغب بإغلاق هذا العار. وما يحصل فيه لحد اليوم دليل كاف إلى الحد الذي جعل منظمة العفو الدولية تقول إن معتقل غوانتانامو الأمريكي يمثل همجية هذا العصر.