بعد مضي عام على المصادقة عليه عبر استفتاء في الفاتح من يوليوز 2011٬ أدخل الدستور الجديد للمملكة٬ الذي أتى في سياق تغيرات عميقة في المنطقة العربية٬ المغرب في مسلسل تجديد سياسي عميق٬ مستعينا بتجربة التعددية السابقة التي مكنته من تجنب الاضطرابات التي شهدتها مناطق أخرى. وساهم الدستور الجديد٬ الذي اعتمد منهجية أرادها جلالة الملك محمد السادس أن تكون تشاركية٬ وتأخذ بعين الاعتبار تطلعات المجتمع ومختلف الجهات الفاعلة في الحقل السياسي الوطني٬ في تكريس الخيار الديمقراطي والتعددي للبلاد٬ والمؤسس على مبدإ الفصل بين السلط وسيادة القانون وضمان الحريات الفردية والجماعية٬ فضلا عن وضع آليات ومؤسسات جديدة لتعزيز الحكامة الجيدة وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في بعدها الكوني. وهكذا توج النص الدستوري٬ الصادر بظهير شريف في 29 يوليوز 2011٬ عملية تشاورية قادتها اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور٬ التي أعلن عنها في الخطاب الملكي لتاسع مارس 2011٬ بحيث عكس الهيكل المؤسساتي الجديد جليا مستوى النضج الذي بلغه المغرب بكل مكوناته للارتقاء إلى مصاف الدول ذات التقاليد الديمقراطية الراسخة. ففي ظل الدستور الجديد٬ تم تكريس التعددية وحقوق الإنسان والحريات الفردية٬ مع إعادة التوازن بين السلط وخاصة منها سلطات رئيس الحكومة والبرلمان٬ ليضع المملكة في صلب دينامية ديمقراطية برلمانية واجتماعية مستدامة. ومما لاشك فيه٬ فإن التأثير الحقيقي للنص الدستوري الجديد على الحياة السياسية الوطنية٬ والذي لمسناه بالفعل من خلال نسبة المشاركة في الاستفتاء على الدستور (نحو 75 في المئة٬ بما في ذلك 97.58 في المائة صوتوا ب+نعم+) تجلى في التنافس السياسي الذي ميز الانتخابات التشريعية ل25 نونبر 2011، والتي أفرزت حكومة ائتلافية يقودها حزب العدالة والتنمية٬ ذو التوجه الإسلامي٬ حيث شكل تنصيبها من لدن برلمان منتخب حديثا٬ لحظة قوية في الحياة الديمقراطية للبلاد٬ لانبثاقها مباشرة من صناديق الاقتراع. كما تتجلى الإسهامات الجديدة للدستور الجديد٬ بغض النظر عن الجوانب التي تستدعي صياغة قوانين أساسية لتفعيلها٬ في المكانة البارزة التي تم إيلاؤها لمبدأ الحكامة الجيدة مع تكريس ثقافة المسؤولية والمحاسبة بهدف الارتقاء بالخدمات التي توفرها الدولة للمواطنين. وينبغي٬ في الواقع٬ اعتماد القوانين التنظيمية من أجل التنزيل الأمثل لمقتضيات الدستور٬ وفق ما أوصى به جلالة الملك الذي حث مجموع الفاعلين السياسيين على اعتماد تفسير ديمقراطي في كل الأحوال. ووفق المنظور ذاته يندرج الدور الذي أنيط بالقضاء بوصفه الضامن للحقوق والحريات الفردية والجماعية٬ وكسلطة تكفل استقلاليتها عدة آليات من ضمنها المجلس الأعلى للقضاء. وفي هذا الصدد٬ يشكل النقاش الواسع المفتوح حاليا في إطار الهيئة العليا للحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة٬ ورشا كبيرا يتوج المسار الإصلاحي والخلاق للدستور الجديد. كما تندرج في هذا السياق المهام التي أنيطت بالمجلس الوطني لحقوق الإنسان وغيره من الهيئات الجديدة التي تم التنصيص عليها كهياكل دستورية لتكريس الحقوق الاجتماعية والثقافية واللغوية التي نص عليها الدستور. وفي إطار هذه المقتضيات التي من شأنها أن تكرس الإسهامات الخلاقة للدستور٬ تم إقرار نظام الجهوية كأرقى أشكال التدبير الديمقراطي للشأن العام الوطني والمحلي٬ والذي يمكن الجهة من صلاحيات واسعة، بمجالس إقليمية منبثقة من صناديق الاقتراع٬ بما فيها رئيس الجهة٬ مما سينعكس إيجابا على التنمية المتناغمة للجهات٬ وذلك أخذا بعين الاعتبار مبادئ التوازن والتضامن وتكافؤ الفرص بين الجهات. إن من شأن الانتهاء من عملية وضع هيئات الجهوية المتقدمة أن ينعكس إيجابا على الحياة السياسية الوطنية من خلال التعبير الديمقراطي للمكونات الجهوية عبر مجلس المستشارين٬ الذي يتجلى دوره على الخصوص في إبراز اهتمامات وانشغالات الجهة في السياسة العامة للدولة وفي مختلف السياسيات القطاعية التي تعتمدها الحكومة.