اسمها مريم جدّها كان واحدًا من النشطاء السياسييّن، عرفته شوارع القدس وهو يهتف في التظاهرات. حينما جاء التركي جلال بايار إلى البلاد لجرّها إلى حلف بغداد، كان الجدّ وآلاف الناس له بالمرصاد. أسقطوا الحلف، واقتيد الجدّ بعد ذلك إلى السجن الصحراوي ليمكث فيه بضعة أعوام. الجدّ مات وأبوها اشتغل في التجارة. كان له في سوق حارة النصارى حانوت يبيع فيه للسيّاح أيقونات وتذكارات. والأب مات من مرض لم يمهله طويلاً. بقي لها أخ وأخت وهما مع والدتهما في كندا الآن. وهي التي أصرّت على البقاء في البلاد، تقول لي حينما يجتاحها الحزن: انظر كيف يتناقص عدد المسيحيّين الفلسطينيّين في المدينة! وأنا أهزّ رأسي أسفًا لهذا النقصان. ولا نجد عزاءنا إلا في موسيقى شوبان (تتخيّل نفسها وهي تستمع إلى موسيقاه بأنها أخته لويز التي كانت إلى جانبه وهو يموت). نستمع إلى أنغام البيانو ونحن نحتسي النبيذ، والمدينة تنحني على جراحها وتنام. خذلان تعلّمت الرسم في معهد للفنون الجميلة خارج البلاد. ثم عادت إلى القدس وهي مفعمة بالرغبات. وقعت وهي في الثلاثين في حبّ رجل كان يعمل مهندسًا في شركة لأجهزة الحاسوب. قالت إنّها قضت معه أيّامًا ممتعة. كانا يذهبان إلى المسرح الوطني لمشاهدة العروض المسرحيّة. وفي أشهر الصيف يذهبان، رغم حاجز قلندية العسكري، إلى رام الله للتمشّي في شوارعها ولتناول طعام العشاء في واحد من مطاعمها. وبينما كانت تتوقّع منه أن يتقدّم لخطبتها خذلها. وأخذت علاقتهما تفتر ويعتريها الذبول. استوعبت خذلانه لها بعد جهد جهيد، ووجدت في الرسم متنفّسها الوحيد. انتظار ولدت بعد هزيمة 1967 بعام واحد. جدّها كان مع اليسار. دخل السجون وخرج منها ثلاث مرّات، وكان مجموع ما قضاه فيها ثلاث عشرة سنة. أبوها لم يكن يعبأ بالسياسة. كرّس وقته للتجارة وكان دخله منها يكفي لتغطية تكاليف معيشته هو وأسرته، ولإرسال الولد والبنتين إلى الجامعة. لم تجتذبها التجارة.كانت لديها قناعة بأنّ الرسم هو وسيلتها للردّ على ما في الحياة من بؤس وخذلان. ولدت في القدس وعاشت فيها ولم تغادرها إلا حينما ذهبت إلى الجامعة. لأسرتها بيت في حارة النصارى. بعد موت جدّها تقاسم الورثة البيت. ظلّت تعيش في الغرفتين اللتين ورثهما أبوها من جدّها إلى أن جاءها العريس. جاءها وهي في السابعة والثلاثين، تقول لنفسها: ليته جاء قبل سبعة أعوام. دليل السيّاح اسمه إلياس. يعمل دليلاً للسيّاح. تزوّجته وهو في الخامسة والأربعين. تعرّفت إليه صدفة حينما كانت ترسم على أحد حيطان البلدة القديمة. اقترب منها وكان معه فوج من السيّاح: هل تسمحين لنا بالنظر إلى ما ترسمين؟ طبعًا، بكلّ سرور. واصلت الرسم برشاقة وانسياب، أبدى السيّاح إعجابهم بما ترسمه. قالت: سررت لأنّ ما أرسمه نال الإعجاب، ودليل السيّاح أبدى إعجابه بي بصراحة لا تحتمل الكتمان. أعطاني بطاقته التي تحمل رقم هاتفه، وبريده الإلكتروني، وأخذ رقم هاتفي وعنواني. انهالت عليها الهواتف في المساء وفي الصباح. تزوّجها بعد شهرين من لقاءات لم تنقطع يومًا واحدًا. أصبح محبًّا للرسم، وهي أصبحت معنيّة بالسياحة والسيّاح. نعاس في الليل، وهما في المطبخ، يشتبكان في مباراة حول معلومات كلّ منهما عن القدس. هو دليل للسيّاح ومعرفته بتفاصيل المدينة لا تشوبها شائبة، وهي رسّامة اجتذبها الرسم على الحيطان، ومعرفتها بأماكن المدينة لا تشوبها شائبة. مع ذلك، يحدث أن تتغلّب عليه حينًا، وأن يتغلّب عليها في أغلب الأحيان. وهما يواصلان المباراة في الصالة ولا يصغيان إلى ما يبثّه التلفاز. يواصلان المباراة في السرير ويضفيان عليها إثارة وشغبًا له طابع خاص، ولا يتوقّفان عن ذلك إلا حينما تخمد حركتهما ويتسلّل النعاس إلى عينيها، يحرص على التأكّد من أنّها نامت، وهو بعدها ينام.